تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

كلمة للفائزين بعضوية مجلس الشعب السوري

26/10/2025 - ياسر محمد القادري

سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة

13/10/2025 - ياسين الحاج صالح

اوروبا تستعد للحرب

13/10/2025 - د. إبراهيم حمامي

من الفزعة إلى الدولة

13/10/2025 - حسان الأسود

انتخاب أم اصطفاء في سورية؟

13/10/2025 - احمد طعمة

المسار التفاوضي بين الحكومة السورية وقسد.. إلى أين؟

01/10/2025 - العقيد عبدالجبار العكيدي


من أزمة الانكشاف المصرفي إلى إعادة هندسة النظام المالي السوري




الملخص-
تكشف أزمة انكشاف المصارف السورية على النظام المالي اللبناني – التي بلغت ذروتها بإعلان مصرف سورية المركزي في 22 أيلول/سبتمبر 2025 إلزام البنوك بالاعتراف الكامل بالخسائر وتقديم خطط لإعادة الهيكلة – عن خلل بنيوي في الاقتصاد السوري المعاصر، اقتصاداً هشّاً قائماً على وسائط خارجية للتمويل والعملة.


 
هذه الورقة لا تتناول الأزمة عبارة عن حادث مالي، بل كـ نقطة انعطاف فلسفية تمكّن من التفكير في تأسيس نظام نقدي ومصرفي جديد قائم على الاستقلال المؤسسي والتمويل الذاتي المنتج.
تعتمد الورقة مقاربة مزدوجة تقوم على تحليلٍ نظريٍّ مستندٍ إلى فلسفة الاقتصاد النقدي ومفاهيم الاقتصاد المؤسسي، ورؤية عملية لإعادة هيكلة المنظومة المالية السورية بما يحررها من الاعتماد البنيوي على الخارج، ويعيد تعريف دور المصارف في التنمية الوطنية.

أولًا، خلفية الأزمة وأهميتها البنيوية:

1.1 تواريخ وأرقام:
منذ عام 2019، بدأت الأزمة المالية اللبنانية تُلقي بظلالها على المصارف السورية التي كانت تحتفظ بودائع واستثمارات لدى نظيراتها اللبنانية، وبحسب البيانات المنشورة في 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025، فقد بلغ حجم الانكشاف نحو 1.6 مليار دولار من أصل 4.9 مليارات وهي إجمالي ودائع البنوك التجارية السورية، أي ما يعادل ثلث إجمالي القطاع تقريبًا.
وفي 22 أيلول/سبتمبر 2025، أصدر مصرف سورية المركزي توجيهاً يُلزم البنوك بالاعتراف بهذه الانكشافات وإعادة هيكلة ميزانياتها خلال ستة أشهر، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ النظام المالي السوري.
1.2 دلالة الأزمة:
ليست الأزمة فقط خسارة مالية، إنما هي علامة على نموذج اقتصادي تابع؛ نظامٌ يعتمد على "الاقتصاد الوسيط"، أي على وجود دولة مجاورة (لبنان) تؤدي دور القناة النقدية بين الداخل السوري والعالم الخارجي، نتيجة العقوبات وضعف المؤسسات المالية الوطنية.
هذا النموذج كشف حدودَه حين فقد لبنان قدرته على العمل كوسيط. فتحوّل الاعتماد إلى اختناق، وكُشف عن هشاشة داخلية مزدوجة؛ هشاشةٍ نقدية (غياب سوق عملة فعّالة) وهشاشةٍ مصرفية (ضعف رأس المال المحلي).

ثانيًا، القراءة الفلسفية للأزمة – من التبعية إلى الوعي المالي:

2.1 الاقتصاد كفلسفة للعلاقة:
#في الفلسفة الاقتصادية الحديثة، يُنظر إلى النظام النقدي كعلاقة قوة ومعنى، وليس وسيلة للتبادل فحسب، بل إنه بنية وعي جمعي تحدّد كيف يتصور المجتمع الثقة والمستقبل والقيمة.
من هذا المنظور، الأزمة ليست أزمة سيولة" بحقيقتها، بل أزمة في فلسفة الاعتماد – أي في تصوّر السوريين لمصادر القوة المالية.
فالاعتماد على وسيط خارجي (لبنان) لم يكن فقط خياراً عملياً بل "تصورا ضمنياً" عن ضعف الذات الاقتصادية السورية وضرورة الاحتماء بغيرها.
2.2 المدرسة المؤسسية الجديدة:
وفق نظريات Douglass North وElinor Ostrom، تتشكل المؤسسات الاقتصادية المستدامة عندما يكون الاعتماد الذاتي ممزوجاً بشبكات ثقة داخلية، أي عندما يُعاد بناء الاقتصاد من قاعدة المجتمع إلى الدولة، لا العكس.
وهذا يطرح ضرورة بناء منظومة مالية سورية قادرة على إعادة تدوير المدخرات المحلية في استثمارات منتجة، بدل تهريبها إلى الخارج أو رهنها للبنوك الأجنبية.
2.3 فلسفة ما بعد النقد الدولاري:
كشفت الةزمة أيضاً مأزق "الارتباط بالدولار" في اقتصاد معزول دولياً، إذ أن فقدان القنوات البنكية في لبنان كشف حدود السيادة النقدية السورية.
فالرؤية الجديدة يجب أن تنطلق من فلسفة "العملة الوطنية المستقلة" والقائمة على الدعم الإنتاجي لا الإملاء الخارجي.

ثالثًا، نحو هندسة مالية سورية جديدة:

3.1 المبدأ الأول، التمويل المنتج لا التمويل الوسيط:
يجب أن تتحول البنوك السورية من دور "الوسيط المالي" إلى دور "المستثمر التنموي"، أي أن تُعيد هيكلة أدواتها لتصبّ في تمويل الإنتاج المحلي (صناعي، زراعي، تكنولوجي) بدل الإقراض الاستهلاكي أو التحويلات الخارجية.
فالتمويل المنتج ليس شعاراً بل هو فلسفة تعبر عن تحويل العلاقة بين رأس المال والمجتمع من علاقة ربح قصير الأجل إلى علاقة بناء طويل المدى.

3.2 المبدأ الثاني، استقلال المنظومة النقدية:
إعادة بناء الاستقلال النقدي لا تعني الانعزال، بل تعني التموضع الذكي.
ولهذا يمكن تبنّي نموذج "المنطقة النقدية الجزئية" (Partial Currency Zone) حيث يُدار النقد الوطني عبر نظام مدفوعات داخلي رقمي مستقل عن النظام البنكي الدولي، مستنداً إلى أصول حقيقية (كالذهب أو الطاقة أو الإنتاج الزراعي وما شابه)، مما يخفف أثر تبعات العقوبات حتى لو استطعنا رفعها كاملة، ويزيد من استقرار العملة.
3.3 المبدأ الثالث، الحوكمة الشفافة واللامركزية المالية:
من خلال تطبيق نماذج الحوكمة الرقمية والشفافية المفتوحة (Open Ledger Governance)، يمكن تحويل الثقة من الدولة المركزية إلى نظام تشاركي يخضع للرقابة التقنية والمجتمعية.
هذا التفكير "من خارج الصندوق" يتماشى مع تجارب بعض الاقتصادات الحديثة التي استخدمت نظمًا مالية شبه رقمية داخلياً (كإيران وكوبا وفنزويلا جزئيا)، لكن بنسخة أكثر مرونة وتدريجية، والتي وإن كنا لانوصي بجعل سورية في مصافهم اقتصادياً، إلا أن البحث في تجربتهم وتطبيقها بشكل يناسب الوضع السوري الراهن والمستقبلي قد يكون مفيداً للخروج من الأزمة بأسرع وقت.

رابعًا، الرؤية الإصلاحية المقترحة:


4.1 المرحلة الأولى (2025–2026)، تصفية واعية وإعادة توجيه:
تطبيق مبدأ "الاعتراف الذكي بالخسائر" أي تحويل الخسائر إلى فرص لإعادة توزيع رأس المال ضمن النظام المحلي.
وإطلاق برنامج "إعادة تمويل التنمية الوطنية" برأسمال محلي وإدارة مصرفية مهنية.
وأيضاً، تأسيس وحدة سياسات نقدية مستقلة داخل المصرف المركزي، تُعنى بإدارة النقد الوطني كأداة استراتيجية لا مجرد غطاء حسابي.

4.2 المرحلة الثانية (2026–2028)، بناء الثقة الاجتماعية المالية:
إنشاء صناديق ادخار وطنية متخصصة (في الزراعة، الطاقة، المشروعات الصغيرة) تموّلها السندات المحلية بدل الودائع الدولارية.
وربط البنوك بالبلديات والغرف التجارية كقنوات مباشرة للتمويل المحلي، ونشر مؤشرات شفافية مالية علنية ربع سنوية تُظهر أين تذهب الأموال، مما يخلق "ثقافة مالية وطنية جديدة".

4.3 المرحلة الثالثة (2028 وما بعدها)، تصدير نموذج وطني:
تطوير نموذج "التمويل السوري المبتكر" القائم على شراكة المجتمع مع النظام المصرفي، ليصبح منصة جذب للاستثمارات العربية والأجنبية وفق منطق الشفافية والاستقلال، وإدخال أدوات تمويل رقمية وطنية (عملة رقمية سورية مدعومة بالإنتاج المحلي)، بديلاً عن الدولار في المعاملات الداخلية.

خامسًا، المنافع المتوقعة من هذا التحول:

  1. استعادة السيادة النقدية دون صدام مع النظام المالي الدولي، بل عبر تجاوز الحاجة إليه تدريجياً.
  2. تحويل الأزمة إلى فرصة تأسيسية لإطلاق عقد مالي جديد يربط الثقة بالعمل المنتج.
  3. جذب رؤوس أموال الشتات السوري عبر قنوات شفافة، تحمي المستثمر وتخضع لمعايير مهنية لا أمنية.
  4. خفض الاعتماد على الاقتصاد الموازي عبر إدخال السيولة غير الرسمية إلى النظام المصرفي الشرعي.
  5. تأسيس ثقافة مالية وطنية جديدة تقوم على الشفافية والربط بين الادخار والتنمية.

الخاتمة:

تكشف أزمة الانكشاف المصرفي على لبنان، بكل قسوتها، عن لحظة تأسيسية نادرة، لحظة الوعي المالي السوري بذاته.
فالمال، في جوهره، ليس مجرد وسيط تبادل بل صورة لإرادة المجتمع في الاستقلال والثقة.
من هنا، فإن الطريق إلى "اقتصاد سوري جديد سليم وحر ومعافى" لا يمرّ عبر التعويض عن الخسائر، بل عبر تجاوز منطق "الوسيط المالي" برمّته، وبناء منظومة إنتاجية–نقدية متكاملة تستمد قيمتها من داخلها لا من خارجها.
إن تحويل هذه الأزمة إلى لحظة تأسيسية يتطلب شجاعة فكرية قبل الأدوات التقنية، شجاعة الاعتراف بأن زمن الاقتصاد التابع قد انتهى، وأن المستقبل لمن يملك الجرأة على إعادة تعريف المال كقيمة وطنية قبل أن يكون رقماً في الميزانيات.

المراجع :

  1. الحل نت، "1.6 مليار دولار معلقة في لبنان.. ما مصير أموال البنوك السورية؟"، 21 تشرين الأول/أكتوبر 2025.
  2. Reuters, Syria gives banks six months to absorb losses from Lebanese crisis, 22 October 2025.
  3. Hyman P. Minsky, Stabilizing an Unstable Economy, Yale University Press, 1986.
  4. Douglass North, Institutions, Institutional Change and Economic Performance, Cambridge University Press, 1990.
  5. Elinor Ostrom, Governing the Commons, Cambridge University Press, 1990.
  6. Diamond, D. & Dybvig, P., “Bank Runs, Deposit Insurance, and Liquidity,” Journal of Political Economy, 1983.
  7. Mehrling, Perry, The New Lombard Street: How the Fed Became the Dealer of Last Resort, Princeton University Press, 2010.
  8. Beck, D. (2018), “Sovereign–Bank Nexus and Systemic Risk,” Journal of Financial Stability.

المكتب الاقتصادي - تيار المستقبل
الاحد 26 أكتوبر 2025