نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

عن روسيا وإيران شرق المتوسّط

08/05/2024 - موفق نيربية

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام


رحيل محسنة توفيق.."أقول للمصريين: تستطيعون جعل وطنكم أفضل"




قدّم أبي أوراق طلب إدخال هاتف للمنزل قبل زواجه، ودخل الهاتف بينما كان عمري 6 سنوات، قبل أن يتحول بيتنا إلى سنترال صغير يتلقى فيه الجيران مكالماتهم. ولسنوات كانت الأيام التي يتعطل فيها الهاتف أكثر بكثير من الأيام التي يعمل فيها. وفي واحد من أيامه الذهبية رن الجرس، رددت وجاء صوتها مميزاً:


 
ـ إبراهيم موجود؟
قلت: آه. مين معايا؟
ـ محسنة توفيق.
عرفتها فوراً رغم صغر سني، وبنزعة طفولية اصطنعت الرصانة، وقلت لها: "طيب لحظة واحدة".
وقبل أن أترك السماعة قالت: "استنى يا واد. هو انت مش عارفني؟". شعرت بحرج بالغ، وقلت لها: "إزاي، عارف حضرتك طبعاً".
قالت: "أُمّال مش بتسلم عليّ زي الناس ليه؟ اوعى يا واد تكون مش عارفني". قلت لها باحتفاء شديد بعد ما انهارت الرصانة: "لا والله عارف حضرتك طبعاً".
قالت: "طيب، اجري روح نادي أبوك". رحلت الفنانة المصرية الكبيرة عن 80 عاماً، بعد أسابيع قليلة من ظهور أخير بمناسبة تكريمها في مهرجان أسوان لأفلام المرأة، تكلمت خلاله عن كيف أن الشعوب هي التي تصنع التاريخ: "أقول للمصريين: يجب أن تصدقوا أنكم عظماء، تستطيعون أن تجعلوا وطنكم أفضل". اهتمت بالتاريخ، وكانت تأمل في العمل بالطب أو الهندسة الزراعية "لخدمة البسطاء من الفلاحين؛ علاجهم ومساعدتهم في تطوير الأراضي الزراعية". مع ذلك، لم يمنعها العمل الاحترافي في التمثيل من التعبير عن فكرة الفنان، أو المثقف العضوي، الذي هو دائماً على يسار السلطة، ومشغول بالحراك الوطني، والاشتباك مع ما يُتاح من مشاركات مهمومة بالمصلحة الشعبية ومقاومتها، فضلاً عن استطاعتها تقديم أدوار مهمة في أعمال اشتغلت على الأفكار نفسها، في حالة اتساق لامعة بين ما أدته من فن وبين همّها الخاص وسؤالها الإنساني، حتى أن "بهية"، اسم الشخصية التي أدتها في فيلم "العصفور" ليوسف شاهين، صار من الأسماء التي ترمز إلى مصر في أحوالها النضالية، خصوصاً مع مشهد النهاية، حيث تجري في الشوارع بعد خطاب تنحي عبد الناصر بسبب نكسة 67، وهي تصرخ: "لا، هنحارب.. هنحارب".
تابعتُ مشهد وداعها الكبير على صفحات التواصل الاجتماعي، التي نعتها مذكّرة بتاريخها الثقافي والنضالي المُهم، وانتشار بالغ لصور وعبارات قالتها في أعمال تنتمي بشكل ما لثقافة النخبة، أبرزها المشهد المذكور من فيلم "العصفور"، رغم إسقاطه المباشر على حالة الرغبة الشعبية في النضال والحرب واستعادة الأرض. وتوقفت عند افتقاد حالة وداعها هذه للدور الذي ذهبت به محسنة توفيق إلى قلوب العاديين، وجعلها على صلة قرابة بكل أسرة مصرية تنتمي للطبقة الوسطى، وجلست مرتاحة في الذاكرة الشعبية بسببه. وهو دور "أنيسة" في مسلسل "ليالي الحلمية". الدور كانت بدأته في الجزء الأول للمسلسل فردوس عبدالحميد، قبل أن تتركه وتستكمل محسنة توفيق بقية الأجزاء. وتعاطى الجمهور معها من دون أن تتأثر مخيلته، أو يعكر صفو تلقيه كون العمل كان قد بدأ بممثلة أخرى. وتوالت الأجزاء عبر سنوات، كبرنا فيها مع أبطال المسلسل، الذي قد يكون الأشهر في تاريخ الدراما المصرية، والأكثر تأثيراً في ذاكرة أبناء هذا الجيل.
مع ذلك وجدتني، أنا الآخر، مُستغرقاً في الفرجة على الصور التي اُلتقطت لها مشاركة في أحداث ثورة يناير، وقراءة تعليقات الأصدقاء عليها. وأبرزها واحدة تظهر فيها منفردة تتحامل على نفسها للسير في مواجهة صف من عساكر يوم 28 يناير 2011، يوم جمعة الغضب. تفرجت، أيضاً، على مشاهدها، التي وصفتها السطور السابقة بالنخبوية. وبحثت عن مشهد تغني فيه، بصوت جميل له سمات خاصة لطالما تحدثت عنه زميلات السجن السياسي، أغنية الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم:
"ورفاق مسيرة عسيرة وصورة حشد ومواكب.. في عيون صبية، بهية، عليها الكلمة والمعنى.. مصر يا امّه يا بهية، يا أم طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتي شابة، هو رايح وانتي جايه".
هكذا فكرت في مشهد الوداع الإلكتروني الكبير، وسماته التي انتحت إلى شكل ظاهره نخبوي، بينما باطنه مشحون بعواطف ثورية مكتومة انهالت فوقها الأتربة. نحن الذين انكسرت أحلامنا، وصارت أيامنا ابنة شرعية للحزن، يبدو أننا صرنا نتكئ على حالات شجن مثل هذه، نرفع عبرها حرج الرغبة في الإعلان عن حنين إلى أيام غنينا فيها تلك الأغاني بلا مصمصة شفاه، أو ابتسامات ساخرة.
---------
العربي الجديد

هشام أصلان
الاربعاء 8 ماي 2019