ولأن كلامكم، مثقفنا الفاضل، ليس من قبيل الكلام الذي يُطْوَى، ولا يُرْوى، يسعدني أن أستأذنكم في أن أرفع إلى مقامكم الاعتباري فينا، هذا الخطاب في شأن خَطَايَاكُم، التي تقترفونها في حقنا، نحن معاشر أمة الجهل المقدس، دون الأخذ بعين الاعتبار، لما نحن فيه من انسداد تاريخي رائع، وانحطاط حضاري جميل، وتخلف مجتمعي لذيذ.
 
أستاذنا الفاضل والموقر،
كل شيء فيكم جميل: مُبْهِرَةٌ هي حكمة لُقْمَانَ بن يَاعُورَ، إذ أُلْقِيَتْ في عقلكم. وذلك العناق الحار، على أَدِيمِ رُقُوقِكم، وثَنَايَا مُتُونِكم، بين ابن جِنّي وپِيرْلْمَان، ما أبهاه من عناق. كم هو جميل فيكم ذلك الخيال الأدبي الجَمُوحُ، جُمُوح فرس امرؤ القيس، في كَرِّهِ وفَرِّهِ، وفي إِقْبَالِهِ وإِدْبَارِهِ. لكن الأكثر جمالا، أنكم ما تركتم بستانا من بساتين التراث، إلا أشبعتموه حرثا وتقليبا.
الحق، يا يوسف، أنه لم يثبت أن اشتكت من فُحُولًة قَرِيحَتِكم، يوماً، ورقة باحثة عن حِبْر يُسَوِّدُ بياضها. فكل القَرَاطِيس العذراء، التي سقطت بين يديكم، قد افْتَضَضْتُم بكارتها بنجاح. لست في حاجة إلى تذكيركم بأنكم قد رَقَمْتُم عليها دُرَرًا، يحار المرء في فهم كيف أن ألفاظها قد شَدَّتْ، من سَغَبٍ، أحْشَاءَهَا وطَوَتْ، فيما الشبع بَادٍ على معانيها، حدَّ التُّخْمة. شخصيا، يساورني بعض الشك، في أنكم قد زُرْتُم وادي عَبْقَرِ، فَرَشَوْتُم الهَوْبَرَ لينفث على لسانكم، أو أنكم قدمتم القرابين للهَوْجَل، كي لا يَسْكُبَ ريقه في مِحبرتكم.
 
مثقفنا الفاضل والمحترم،
لا شك أنكم تعلمون، علم اليقين، أنه لم يَخْلُ عصر من عصور أمة "الجهل المُقَدَّسِ"، المُتَوَلِّدُ لَاحِقُهَا من رحم سَابقِهِ، من شتى صنوف التهجم والتضييق - حد التكفير، والإعدام - في حق زُمْرَة قليلة من النَّوَابِتٍ (باصطلاح ابن بَاجَةَ في "تَدْبِيرِ المُتَوَحِّدِ"). لا لشيء، إلا لأنهم امتثلوا لأمر السماء: "إقرأ"، وتجاوزوه - اجتهادا، واحتسابا - إلى فعل آخر من لواحقه، أقصد فعل الكتابة، لأمة لا تقرأ أصلا ما يكتب لها. 
لست في حاجة لأذكركم كيف قُطِّعَتْ أوصال ابن المقفع، وأحرقت الواحدة تلو الأخرى أمام ناظريه. أو كيف صُلِبَ الحلاج، وجُلِدَ على رؤوس الأَشْهَاد، وقُطِّعَت أطرافه من خِلَاف. أما السَّهْرُوردي، فأنتم تعلمون أنه قد حُبِسَ، من غير أكل وشراب، حتى تَرَجَّل وحيدا بسبب الجوع والعطش. هل تريدون أن أصف لكم الأَتَانَ، التي حُمِّلَ جثمان ابن رشد على جانبها الأيمن، وكتبه على جانبها الأيسر؟
ستقولون لي: إن ذلك من غباء الأولين.. حسنا، لكن ماذا عن أمة طَلَّقَتْ نصر حامد أبو زيد من زوجته، غصبا عنهما معا، عقابا له عما كتب؟ أليست هي الأمة ذاتها، التي تحالف "أزهرها" مع "إخوانها"، على اغتيال فرج فودة، بعد تكفيره؟ أليست هي الأمة عينها، التي حاولت تصفية نجيب محفوظ؟
 
مثقفنا المزعج والمستفز،
ما أعرفه عنكم، وأنا الذي أزعم أنني من فصيلة القوارض لمتونكم، أنكم اليوم من أكثر الباحثين في تاريخ وتراث الإسلامي دقة، ورصانة، وعلما، واطلاعا. ورغم ذلك لم ينفعكم علمكم الغزير في أن تفهموننا، وتفهمون ماذا نريد. ألستم أنتم القائلون: إن "الذين يفكرون، وحيدون، لأنهم فارقوا القطيع"؟ ها أنتم إذن وحيدون..
فبالله عليكم، أي جُرْمٍ أتيناه في حقكم، حتى تجرأتم على تسفيه أنبياءنا غير المبعوثين؟ ألا تعلمون، أننا بالكاد نلتقط أنفاسنا بين كل ركعة وسجدة أمام أصنامهم، التي شَيَّدْنَاهَا لهم على مر السنين؟ وبأي جريرة تؤاخذوننا، حين انكببتم على تقويض أوهامنا عن قديسنا صلاح الدين الأيوبي؟ وهل أتينا شيئا إِدًّا، حتى تعمدتم أن تكشفوا لنا عن سوءة أميرنا المبجل، عبد الرحمن الداخل؟
أنتم، ولا ريب، مثقف مزعج، وسَادِيٌّ.. نعم، أنتم مثقف سَادِيٌّ، لأنكم لا تحسون بالنَّشْوة والحُبُور، إلا إذا رأيتمونا نبكي قُصورَنَا المُشيَّدة بالأوهام، تَخِرُّ أمام معاولكم الهدامة. ولا يَرِفُّ لكم جَفْنٌ، حتى تروننا نَشُقُّ الجُيوبَ، ونَلْطمُ الخُدودَ، كَمَدًا على أَوثانِنا، التي هَدَدْتُموها بمطرقتكم. لن تتمكنوا من إقناعنا بأنكم لستم كذلك، وإلا لماذا أنتم مصرون – كل هذا الإصرار - على فتح أعيننا، عُنْوَةً، أمام زيف معتقادتنا حول مكان المسجد الأقصى؟ وعن خرافة المعراج؟ 
بعد كل هذه الخطايا التي اقترفتموها في حقنا، أما زلتم تنتظرون منا أن نتوقف عن نصب المشانق لكم في وسائل الإعلام؟ وفي مجالسنا الخاصة؟ واهمون أنتم إن ساورتكم ذرة شك في ذلك. سنظل ننعتكم بالعنجهي، والمستكبر، والضال، والمضل، والزنديق، والملحد، والباطني، وهلم أوصافا.. وقد نكفركم يوما ما، مادام الجناس يجمع بين التكفير والتفكير. سنظل نقتدي بأسلافنا في تعاملهم مع مثقفيهم حتى ترضخ لنا، وتكفر عن خطاياك...
سمعتكم تهمهمون، ماذا قلتم؟ الآن يبدو أننا سنصل إلى نتيجة مرضية، نعم، ما دمتم قد قبلتم الحوار معنا، فسنصل إلى نتيجة. أعتقد أنكم سألتموني ماذا نريد.. حسنا، اسمع ماذا نريد:
كل الصفات الحميدة التي ذكرتها في حقكم، لم تنفعكم في شيء. لم تُسْعِفْكم على أن تعرفوا أن أكبر أعدائكم، هو جهلنا – نحن القطيع الذي تكتبون له - بمنجزكم الفكري والإبداعي. نعم، أكبر أعدائكم هو ذلك الجهل الذي يضرب أطنابه في ثقافتنا، على هيئة ضحالة فكرية عميقة، وكسل قاتل في البحث العلمي.
لم ينفعكم إلمامكم بالتاريخ والتراث، ولا كونكم أديبا نِحْرِيرًا وممسكا بنواصي البلاغة، ولا كونكم ساردا جِهبِيذًا أُوتِيَ مفاتيح مستغلقات الحكي، ولا متفلسفا ضليعا في حكمة الأولين والآخرين .. لم يَصُنْكم كل ذلك، في إتيان خطيئة قاتلة. تسألونني أي خطيئة أَتيتُم؟ خطيئتكم أنكم غير مكترثون بجهلنا المقدس. أنتم لستم عطوفين، يا زيدان، حين تتعمدون استفزاز ركام مسلماتنا العتيقة، وتلحون على كنس شِعَاعَ العناكب التي تسربلت بها أذهاننا. 
نحن لا نستطيع تحمل قوة تلك الأنوار الساطعة، التي تدفعوننا إليها دفعا. فوميض شُعَاع واحد منها يسبب لنا الألم. فدعونا، رجاء، ننعم بالسكينة في ظلام كهوفنا القديمة. نستحلفكم، يا يوسف بن زيدان، بحق كل ذَرَّة حب تُكِنُّونهَا لأسلافكم الميامين: سِيشَاتْ، وتْحُوتْ، وبقية المُهْتَدِينَ منهم بهَدْيِ تَاسُوعَ هِلْيُوبُولِيسْ المقدس، أن تدعوننا وشأننا. نستجديكم بما تحملونه بين أضلعكم من عشق، لمنجزكم الإبداعي: "مَي"، أن تتوقفوا عن النبش في جهلنا، الجاهل فوق جهل "عَمْرُو بْنُ كَلْثُوم". كفاكم من إراقة المزيد من الحبر عن عرفان الصوفية، وبرهان الفلاسفة، وبيان الفقهاء. رجاء أن تحتفظون لنفسكم، بمُثُلِكم الأفلاطونية المُزعجة، وتَدَعُونا نَسْعَد بظلالنا، وأشباحنا، ومُسُوخِنَا، التي أَلْفَيْنَا عليها آباءنا، وألفناها في كهوفنا المُبَجَّلَة. رجاء دعونا نَنْعَمُ بصُحْبَة أهل الرَّقِيم، ولا تُكَدِّروا علينا صفو هذا النعيم.
أكتبوا لنا، مثلا، عن تلك الفراشات، التي ترفرف فوق أزهار فصل الربيع الزاهية.. ذلك الفصل الذي ما عُدْنَا نعرف عنه شيئا غير اسمه الجميل. واكتبوا لنا عن الأرانب.. نعم، أكتبوا لنا عن الأرانب، فنحن نحبها مشوية، أو مطبوخة في القدور. ماذا ستخسرون أيضا، لو أنكم كتبتم لنا، واصفين وساردين، عن فضائل النكاح، وأوضاع الجماع؟ بالعكس، لن تخسروا شيئا، بل سَتَغْدُون فينا قديسا، ووليا من أولياء الله الصالحين، فأنتم أعلم الناس بأن شهوتي البطن والفرج، هما أنشط ما فينا. يمكنكم أيضا أن تَرْقُموا ما شئتم من رُقُوقٍ عن عذاب القبر، نعم عذاب القبر، فنحن سنستمتع بقراءة كل سطر تتحدثون فيه عن واقعنا اليومي، الشبيه بعذاب القبور.
------
انفاس