نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص


كي لا نلدغ من ذات الجحر الواحد مرة تلو أخرى







في أعقاب انتصار الثورة الإيرانية (عاد الخميني منتصرا إلى طهران في الأول من فبراير/ شباط 1979)، وحادثة الحرم (20 نوفمبر/ تشرين الثاني 1979)، والغزو السوفيتي لأفغانستان (25 ديسمبر/ كانون الأول 1979) مع ما رافقه من مقاومة أفغانية ذات نكهة إسلامية، حصلت انتكاسة حضارية، إن صح التعبير، في عالم العرب والكثير من بلاد المسلمين، حين تحول الإسلام المعاصر تحولا شبه كامل إلى أيديولوجيا سياسية محضة من جديد، كما كان الوضع في الأيام الخوالي، وتُركت المنطلقات الحضارية، ومحاولات عصرنة مبادئ الإسلام وراء الظهر، وبدأت مزايدات أيديولوجية متشددة متصاعدة على الخطاب الديني بشقيه السني والشيعي.


 

فثور الخطاب الديني الشيعي، بعد أن كان في حالة سبات واستكانة انتظارا لخروج المهدي “صاحب الزمان”، وإن كان بفكرة استبدادية كفكرة “ولاية الفقيه” التي بشر بها آية الله الخميني بصفة خاصة، واستغلت فكرة “المظلومية” التاريخية لدى الشيعة في تأجيج المشاعر وتعبئة الأنصار في كل مكان، وثورت السلفية وخطابها لتتحول إلى سلفية جهادية أطلت برأسها في السعودية مع جهيمان وحركته “المهدوية”، في استغلال إسقاطي لأحاديث الفتن وأشراط الساعة وحوادث آخر الزمان، وأجج الزخم العاطفي الديني الذي رافق حركة “الجهاد” الأفغاني، كل ذلك أدى إلى استهلال ما اصطلح على تسميته لاحقا من قبل التائبين و”العائدين إلى دين الله أفواجا” بالصحوة، والتي تبين أنها كبوة وأي كبوة، وغفوة وأي غفوة، تُضاف إلى غفوات وكبوات زخر بها تاريخ العرب والمسلمين، الحديث منه والقديم، في وقت كانت فيه المجتمعات العربية قد بدأت تشق طريقها إلى الأمام، فإذا بها تعود أدراجها إلى الوراء من جديد، ولا يسفر ذلك كله إلا عن خفين لحنين، أكل عليهما الزمن وشرب.

ولجعل القصة الطويلة قصيرة، كانت تلك “الصحوة” مجالا لمزايدة المزايدين سياسيا، ورهان المتراهنين إيديولوجيا، سواء من الحكومات القائمة المزايدة على بعضها البعض، كما في الحالة السعودية الإيرانية مثلا، أو على خطاب الحركات الإسلاموية وغير الإسلاموية المعارضة، أو من قبل ذات الحركات الإسلاموية على بعضها البعض، حيث أصبح الكل يُعلن أنه هو الأكثر “إسلامية” من الآخر، والأقرب إلى الله و”الفئة الناجية” من الآخرين، ويحاول أن يُثبت ذلك من خلال التشدد والتزمت والمزيد من تضييق ما وسّعه الله، ودخلنا في معمعة المزايدة الدينية المؤدلجة، وذلك على حساب كل شيء آخر، سواء كان هذا الشيء الآخر هو التنمية أو الوعي أو الإسهام في الحضارة العالمية. ففي مصر مثلا، دفع “الرئيس المؤمن”، محمد أنور السادات حياته ثمنا لتلك المزايدة، التي أراد من خلالها تحقيق هدف سياسي معين هو قمع معارضيه من مختلف الأطياف السياسية والفكرية، من خلال التحالف مع التيارات الإسلاموية التي أخرجها من السجون، ومنحها حرية العمل السياسي، فكان أن سلّم عنقه لمن قطعه في النهاية، فكان ممن ينطبق عليهم المثل الشعبي: “عنز وحفرت عن سكينها”.

انتكاسة حضارية

 
   

في السعودية، حصلت انتكاسة حضارية على مختلف الأصعدة وفي كل الوجوه، الثقافي منها والاجتماعي والتنموي والتعليمي، بالرغم من أن الشرعية السياسية السعودية تقوم على أساس ديني دون حاجة لتأكيدها، ورغم ذلك دخلت في مزايدة مع المزايدين، فقدمت الدولة السعودية التنازلات تلو التنازلات لكل من رفع شعارا إسلامويا، أو انتقد “التراخي” المزعوم للدولة في مجال الخروج عن تعاليم الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب، أو وهابية القرن الثامن عشر، وكأن المجتمع السعودي كان مجتمعا جاهليا قبل ذلك، فكان أن انتصر خطاب جهيمان، الموغل في بساطته وسذاجته، فعليا وعلى الأرض، بالرغم من أنه ومريديه قد أعدموا جسدا.

كان من الممكن للسعودية أن تكون نموذجا لإمكانية التمازج بين الإسلام والمعاصرة، والعمل على تقديم خطاب حضاري لا يتجاهل الدين ولا يتناسى نصيبه من الدنيا، قبل تنازلات ما بعد حادثة الحرم، خاصة وأنها لا تحتاج لإثبات شرعيتها الدينية أسوة ببلاد أخرى لا تقوم شرعيتها على أسس دينية من الأصل، وبالتالي لا تحتاج لأن تضع نفسها على مستوى المقارنة مع بلاد أخرى، ولكن ما حدث كان مختلفا، وكأن السعودية بتنازلاتها وتراجعاتها تحاول أن تثبت للإسلامويين الجدد أنها قد خرجت فعلا عن تعاليم الوهابية النقية، وها هي تعود إليها من جديد.
صحيح أن هنالك ظروفا سياسية وإقليمية ودولية قد تكون أجبرت السعودية وغير السعودية على تقديم مثل هذه التنازلات، كجزء من اللعبة السياسية آنذاك وأوراقها، والسير في ركب “الصحوة المباركة” كنوع من المهادنة السياسية وفرد أشرعة قارب الدولة حيث اتجاه الريح، ولكن الاستمرار في السير على خطى الخطاب الإسلاموي الجديد، رغم كل ما تبين من تطرفه وتعسفه في فهم مقولات الدين، مع ما يرافق ذلك من شبق للدم وهوس بالقتل باسم الجهاد، ضد الآخر المختلف في الداخل والخارج، وهو ما تبيّن واضحا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 في نيويورك، بل وقبل ذلك بعد تفجير مقر بعثة التدريب الأميركية في حي العليا في الرياض، في الثالث عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1995، وتفجيرات أبراج الخبر في الخامس والعشرين من يونيو/ حزيران عام 1996، ثم تفجيرات الرياض في الثاني عشر من مايو/ أيار عام 2003، كان في ظني خطأ فادحا أدى في النهاية إلى نتائج كارثية، ليس أقلها اندفاع الشباب السعودي إلى الانضمام إلى تنظيمات القاعدة و”النصرة” و”داعش”، وغيرها من التنظيمات التي أفرزها خطاب القاعدة “الجهادي”، بمثل ما أفرز خطاب الإخوان المسلمين في مصر معظم تنظيمات “الغضب” الإسلاموي، حتى أصبح الشباب السعودي يشكل كتلة ضخمة من أعضاء تلك التنظيمات، إن لم تكن الأضخم، وبيادق على رقعة شطرنج لا يدرون من يلعبها وراء الكواليس، فقد يكون أي أحد بدءا من إيران وغير انتهاء بالأسد في دمشق، وفوق الجميع ربما أياد أميركية وروسية تحرك الخيوط، ولا ما هو الهدف الخفي للعبة كلها، ويكفّرون مجتمعاتهم وأوطانهم وحكوماتهم ويتبرؤون منها، ويهددون بغزو الرياض و”فتح مكة” بعد الانتهاء من الموصل وبغداد ودمشق.

لقد نجحت السعودية، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، في مكافحة الإرهاب نجاحا باهرا، وهذه نقطة ناصعة البياض تُسجل فعلا للسلطات السعودية، ولكنه كان نجاحا أمنيا تقنيا إن صح التعبير، أي في اجتثاث الفعل أو منعه قبل وقوعه، ولكنه لم يترافق مع مكافحة فعلية للخطاب والعقل الذي يقف وراء فعل الإرهاب والعنف، لأسباب ربما تعود إلى الخوف من تفتت محتمل للشرعية الدينية التي تقوم عليها الدولة، وهو خوف إن وجد فهو غير مبرر وفي غير محله في ظني، فقد كانت السعودية ومنذ تأسيسها تربط شرعية وجودها بالعامل الديني دون سواه، في الوقت الذي كان فيه الآخرون يتنصلون منه، وبقيت تسمي هؤلاء وأولئك “بالفئة الضالة”، أي أنهم مجرد مجموعة من التائهين، ومن الممكن إعادتهم إلى سواء السبيل بالمحاججة والمناصحة والإقناع، ولكن دون المساس بجذور الخطاب، وهو أمر أثبتت الأيام عدم جدواه لحد كبير، خاصة بعد أن ولغ الكثير منهم في الدم أو حرضوا على سفكه، فالقضية أبعد من قضية المحاججة والمناصحة، طالما بقي الإطار العام لخطابهم هو ذاته المؤطر لخطاب ذات الدولة، وطالما وضعت الدولة نفسها على ذات المستوى من المساواة معهم، حين زايدت على خطابهم كلما زايدوا على “انحرافاتها” العقدية المُدعاة.

هل معنى ذلك أن تتخلى الدولة عن الدين جملة وتفصيلا، أو تنقض شرعيتها السياسية نقضا تاما؟ ليس الأمر كذلك بطبيعة الحال، فالتخلي عن خطاب معين يقوم على ركائز دينية لا يعني التخلي عن ذات الدين، القادر على إفراز مختلف أنواع الخطاب الثقافي والسياسي، المتشدد منه والمتسامح، خاصة وأن جوهر الشرعية الدينية للدولة هو “التجديد”، مع الأخذ في الاعتبار تغير محتوى التجديد حسب متغيرات الزمان والمكان، ولا يذكر اسم الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الأب الروحي للدولة السعودية، إلا مترافقا مع وصفه “بالإمام المجدّد”، والخيار في كل ذلك لصانع القرار، والقرآن الكريم حمّال أوجه في الأول والآخر.

 

الأعلام السود

 

اليوم، ها هي “داعش” ترفع “الرايات السود” في العراق والشام، وتعلن “دولة الخلافة الإسلامية” على المسلمين كافة، ومبايعة أبي بكر البغدادي أميرا للمؤمنين، وهو رجل نكرة لا يعرفه أحد، كما فعلت “طالبان” من قبل حين أعلنت الإمارة وبايعت الملا عمر خليفة للمسلمين، وتطبق برنامجها في المناطق التي تسيطر عليها وفق استراتيجية “إدارة التوحش” التي تمثل خريطة طريق بالنسبة إليهم في هذه المرحلة، وإدارة التوحش هذه تقوم على أساس توزيع المهام، وتسيير أمور العامة الذين “تحرروا” من سلطان الدولة القائمة، وذلك لحين الوصول إلى مرحلة “التمكين”، ومن ثم إعلان الدولة الشاملة، والتي من ضمنها تضييق حلقة الدين حتى تُصبح كَسَمِّ الإبرة أو أضيق، ونفي كل خطاب عدا خطابها الموغل في التشدد والتزمت، واسترخاص الأرواح، واستحلال الدماء والأعراض والأموال باسم الله، والله من كل ذلك براء، ووفق نهج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والرسول الإنسان المهداة رحمة للعالمين براء من كل ذلك، وكل الخشية اليوم أن تبدأ مزايدات جديدة شبيهة بمزايدات “الصحوة المباركة”، ومزايدات المرحلة الأفغانية، فنعود إلى الدوران من جديد في حلقتنا التاريخية المفرغة والمغلقة، فترتفع الأعلام السود تارة من الشرق وأخرى من الغرب، ويزايد المزايدون بين الشرق والغرب، وفي النهاية ننقلب على أعقابنا خاسرين المرة تلو المرة، عوضا عن إعلان الحرب على مثل هذا الخطاب وتفسيره الموغل في المروق من الدين باسم ذات الدين، ففي الحديث الصحيح أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: “سيخرج قوم في آخر الزمان، أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما ليقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة“.

وفي الحقيقة، فإن لديّ قناعة تامة بأن داعش أو القاعدة أو جبهة النصرة أو أنصار الشريعة أو الإخوان المسلمين، أو غيرها من تنظيمات وتيارات إسلاموية، مصيرها السقوط والاندثار في النهاية، حتى وإن أقامت دولة أو أنشأت كيانا سياسيا معينا، وما تجربة طالبان الأفغانية عن الذهن ببعيد، بل وما التجربة الخوارجية والقرمطية والإسماعيلية الصبّاحية التاريخية وغيرها ببعيدة عن الأذهان، وهذا ليس من باب التمني والتفكير الرغبي (Wishful Thinking)، كما قد يتبادر إلى ذهن البعض، ولكنه قائم على أسس أظنها موضوعية، لعل من أهمها أن مثل هذه التنظيمات والتيارات ذات قدرة على التهييج والتأجيج والتجييش ودغدغة مشاعر المحبطين واليائسين والعاطلين والضائعين والمنتشين بخمر خطاب يتلاعب بهواجسهم ورغباتهم وشهواتهم، ولكنها غير قادرة على إدارة الدولة وفق خطابها المُعلن، والذي عبّأت من خلاله الأنصار والمريدين، وخاصة في ظروف مثل ظروف العصر الذي نعيشه، وإن فعلت، فإن ذلك لا يكون إلا بالتخلي عن خطابها المؤسس، وهنا تفقد طبيعتها بكونها “حركة إسلامية”، وتتحول إلى دولة كأي دولة أخرى بكل عيوبها المُنتفض عليها سابقا، وما يعنيه ذلك من فقدان الأنصار والأتباع المنتشين بوجدانيات الخطاب، فيبدأون بالبحث عن تنظيم جديد وخطاب جديد في ثنايا الخطاب القديم، وبين أطلال التنظيم العتيق، طالما بقيت الظروف هي ذات الظروف، وتعود الرايات السود إلى الظهور من جديد، باسم جديد، وخطاب جديد هو في جوهره ذات الخطاب الذي أدى إلى نشوء الدولة المغضوب عليها، وهكذا دواليك، وهذا هو في الحقيقة موجز نشوء الدول في تاريخنا العربي الإسلامي وسقوطها، وهو التاريخ الذي لا زال يعيش بيننا رغم تغير زمان العالم من حولنا. ومثل هذه التنظيمات والتيارات في زمننا الحاضر، تعتقد أنها قادرة على إعادة عجلة الزمان إلى الوراء، على افتراض إخلاص من يُحرك الخيوط في الخفاء، وعلى افتراض أنه ليست هناك أهداف وراء الستار، وتكرار تجربة تاريخية كانت لها ظروفها ولكنها درست واندثرت، كتجربة الخلافة مثلا.

 

السقوط هو المآل.. التاريخ لا يعيد نفسه

 
   

لكن التاريخ لا يعيد نفسه، إلا إن عاد قورش وكسرى أنوشروان إلى بلاد فارس، أو بُعث يوليوس وأُغسطس قيصر في روما، أو شارلمان في بلاد الغال أو فرنسا. فبمثل ما كانت “الكسروية” و”القيصرية” و”الإمبراطورية الرومانية المقدسة”، تجارب تاريخية لها ظروفها وبيئتها الصانعة للحدث، فإن “الخلافة” هي مثل ذلك، ولكنك لا تجد اليوم من يحلم بعودة كسرى أو قيصر أو الإمبراطور كلي القدرة، إلا من قبل من اختلطت لديهم الوقائع بأحلام ليالي الصيف، أو أحلام يقظة لا استفاقة منها، وهؤلاء وأولئك هم من غير الأسوياء في النهاية. وقد حاول بنيتو موسوليني أن يُعيد القيصرية إلى أوروبا انطلاقا من روما بفاشيته، وحاول أدولف هتلر إعادة “الرايخ” الأوروبي وبعث الروح في ثنايا الإمبراطورية المقدسة بنازيته، فكانت النتيجة دمارا ليس بعده دمار، فهل هذا ما يسعى إليه هؤلاء: بحيرات من الدماء وتلال من الجماجم، قبل أن يكون السقوط هو المآل؟

والغريب في الأمر أن أوروبا وغير أوروبا اتعظت بما حل بها من كوارث نتيجة أوهام وأطماع وطموحات ما أنزل الله بها من سلطان، ولا خطرت على قلب سويّ من الإنسان، فلم تلدغ من ذات الجحر مرتين، ونحن الذين من المفترض أن نهتدي بقول نبي أخر الزمان: “لا يُلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين”، لُدغنا من ذات الجحر مرات ومرات، وسنلدغ مرات ومرات، إذا بقينا كصبي يافع، أو عديم عقل ضائع، استهوته وأمتعته رعشة الكهرباء حين أدخل أصبعه في مقبسها، فأخذ يُدخله المرة تلو المرة وهو ملتذ بألم تشوبه متعة، غير عالم أن ذات الرعشة هي من ستقتله في النهاية. أجل السقوط هو المآل في النهاية، فما لا يقوم على أساس يهوي ويندثر، ولكن كم من العذابات والألم علينا أن نتلقى قبل أن يحدث ذلك. بل كم من الكوارث والكبوات تحملها لنا رياح المستقبل، إن لم نتخل عن أوهام التاريخ وخطابها المبشر بالضياع، ونعالج الأسباب الحقيقية لظاهرة تركها الآخرون، وبقيت تعيث فسادا بين جوانحنا، وكأننا مازوخيون يستلذون الألم، ويتمتعون بآلام الروح والجسد معا.

 

الخروج من الحلقة

 
   

يقول زبيجينو برجينسكي، مستشار الأمن القومي الأميركي السابق في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر: “الإرهابيون لا يسقطون من السماء”، وبمثل هذا القول يُمكننا القول إن “داعش لم تسقط من السماء”، والحديث عن داعش يشمل غيرها. فداعش في النهاية منا، وشبابها المحترق كالفراشة بمتعة في لظاها هم شبابنا المحبط والمتحفز والمتحمس والمخدرة خلايا أدمغتهم بخطاب قيل لهم إنه هو دين المصطفى الأمين، وإنه السبيل الأوحد للفوز بالدنيا والآخرة معا، مع أنه في النهاية ليس من الدين في شيء، إلا إن كان الدم على قميص يوسف هو دم يوسف.
لم تنشأ داعش من فراغ، فنحن من أنشأها بوعي من أجل غايات في النفس خفية، أو دون وعي نتيجة أوهامنا المعشعشة في الجماجم، وخطابنا المبشر بأساطير لا سند لها من دين أو واقع أو تاريخ، يستوي في ذلك الدول ذات الغايات، والجماعات ذات الطموحات، والأفراد من أتباع الشهوات، وظروفنا المعيشة الناقلة لكل جراثيم الفساد بكل أنواعه، وفيروسات قهر الإنسان بكل أشكاله، وميكروبات الجهل والتجهيل، رغم العلم والتعليم. لا بد من الخروج من حلقتنا التاريخية المفرغة هذه، التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، وهذا لا يتم إلا بخطاب يُبشر بالقطيعة مع أوهام حُشيت في الرؤوس لغايات أربابها أعلم بها، ومع تاريخ نمجده ونحترمه ونستفيد منه، ولكن لا نحاول إعادته، فالذاهب مهما كانت قيمته وحبنا له لا يعود. بالطبع سيأتي من يقول: أهي دعوة إلى القطيعة مع الدين؟ وسيكون الرد: بالطبع لا، فالدين جزء من كياننا الفردي والجماعي، ويجري في عروقنا مجرى الدم، ولكنه دعوة إلى القطيعة مع ما أُلصق بالدين من أفعال هي من صنع الإنسان أولا وآخرا، أما الدين فهو باق إلى يوم يُبعثون، والإنسان بطبعه كائن متدين كما يقول الباحثون، ولم تندثر المسيحية مثلا في أوروبا وأميركا نتيجة مثل تلك القطيعة، ولكنها تحررت من ربقة الأوصياء والتجار والمتكسبين والمتلاعبين بالشعارات، وذلك حين أصبح الدين لله، يُمارسه الفرد بكامل إرادته وحريته وقناعاته، دون قسر أو إكراه أو منع، والوطن للجميع، شركاء فيه يديرونه وفق مصلحة الجماعة، في ظل قانون لا يُفرق بين الوزير والفقير، والشريف والضعيف: “إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد”، مبدأ طبقه أهل القانون من غير المسلمين، وضرب به عرض الحائط من كان من المسلمين، فأعزهم الله بالقانون، وأذلنا الله بالطغيان، ورحم الله ابن القيم وهو القائل: أينما كان العدل، فثم شرع الله، ولنتذكر دائما تلك الحكمة القائلة: زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون، فلنتوخى الحذر دائما فيما ندفن في الأرض من بذور، فمن يزرع الحنظل لا يتوقع أن يحصد العنب.. هذا، ويبقى الأمر لله من قبل ومن بعد.
--------
العرب


تركي الحمد
الجمعة 9 نونبر 2018