في هذا النص، لا أقدّم اتهامًا، بل محاولة لفهم كيف يمكن أن تنشأ فاشية جديدة في سوريا من داخل مجتمع مضطهد سابقًا، تتحوّل ردة فعله إلى سلطة مطلقة باسم “الحق” و”اللحظة التاريخية”.
الفاشية ليست مجرد شكل من أشكال الحكم المتسلّط، بل رؤية شاملة للعالم، تقوم على تمجيد الدولة، واحتكار الحقيقة، وتعظيم القائد، واعتبار العنف وسيلة مشروعة لإعادة تشكيل المجتمع.
في هذا النمط، يتم محو الفرد لصالح الجماعة، وتُختزل الدولة في شخص الحاكم، ويصبح الولاء هو معيار الانتماء الوحيد.
المجال العام يُفرغ من مضمونه، فلا مكان للاختلاف أو المعارضة أو الحقوق الفردية.
التعليم والإعلام والثقافة تُسخّر لترويج خطاب موحّد، يمنع التفكير الحرّ ويكرّس الطاعة.
الفاشية تحتاج دائمًا إلى عدو. لا تكتمل بنيتها الخطابية إلا بوجود “آخر” يجب عزله أو سحقه.
تُصنّف الجماعات داخليًا إلى وطنيين وخونة، وأحيانًا إلى “أنقياء” و”دخلاء”.
وفي الخارج، يُصوّر العالم على أنه مؤامرة دائمة تستهدف الأمة، مما يبرر القمع الداخلي بحجّة الدفاع عن الوطن.
العدو ليس تفصيلًا، بل ضرورة لإبقاء المجتمع في حالة تعبئة مستمرة، وتعليق كل الحقوق باسم “الخطر الداهم”
هذه السمات ظهرت في أنظمة موسوليني وهتلر وفرانكو، لكنها لا تخصّ أوروبا وحدها.
الفاشية تظهر حيث تنهار العدالة، ويبحث المجتمع عن استعادة الكرامة بالقوة لا بالقانون، وبالهيمنة لا بالشراكة.
وإذا نظرنا إلى النظام الأسدي بحقبتين في سوريا، نلاحظ أنه يحقق معظم خصائص الفاشية: الزعيم الواحد، تأليه الدولة، السيطرة الكاملة على المجتمع، قمع أي رأي مختلف، وتعبئة الخطاب بالعنف والتخوين.
لكن النظام الأسدي لم يتبنَّ الفاشية كأيديولوجيا مكتملة، بل بقي نظامًا شموليًا سلطويًا تقليديًا، وظّف أدوات الدولة البوليسية، لا أدوات الثقافة الجماعية.
برأيي، السبب يعود إلى الانتماء الأقلوي لرأس السلطة، الذي فرض عليه خطابًا دفاعيًا، لا خطابًا تعبويًا واسع القاعدة.
أما السلطة الجديدة التي تتشكل الآن، فهي – بشكل مقلق – تتبنى خطابًا يقترب جدًا من الفاشية، ليس من موقع الدولة فقط، بل من داخل المجتمع ذاته.
اللغة التي يستخدمها كثير من المؤيدين الجدد للسلطة تنتمي بوضوح إلى المعجم الفاشي: التقديس، الطاعة، تمجيد العظمة، إقصاء المختلف، واعتبار الديمقراطية تفصيلًا ثانويًا يجب تجاوزه باسم “الدولة”، و”النصر”، و”الغلبة”
لكن الأخطر من ذلك هو السؤال التالي: هل يمكن أن تتشكّل فاشية عربية سنّية، كردة فعل جماعية على عقود من التهميش والإهانة؟
هل ما نشهده اليوم هو محاولة لرد الاعتبار، لا عبر العدالة، بل عبر فرض معكوس للهيمنة، من بوابة السلطة الجديدة؟
في بعض الأوساط العربية السنّية، ظهرت ملامح خطاب فاشي كنوع من ردّ الفعل على عقود من الإقصاء والتهميش.
في رد الفعل هذا، تصبح المظلومية غطاءً لإنتاج سلطة جديدة، لا تعترف بأي مشروع وطني إلا إذا كان مشروعها، ولا ترى معنى للدولة إلا باعتبارها أداة غلبة. تُبنى شرعية القوة بدلًا من شرعية القانون.
ويتحوّل خطاب الانتقام من ظلم سابق إلى مشروع قمع جديد، يرتكز على سردية: “هذه لحظتنا، وسنفرض قواعد اللعبة، كما فُرضت علينا سابقًا”.
الفاشية لا تحتاج دائمًا إلى دولة مركزية قوية؛ فهي تنمو داخل المجتمع: في اللغة، في الإعلام، في التربية، وفي تمجيد القائد والرمز والعلم.
إنها تجعل الدولة فوق الإنسان، وتحوّل المواطن إلى أداة لخدمتها وطاعتها، لا العكس.
الفاشية أيضًا تتبنى خطابًا محافظًا من الناحية الاجتماعية، يكرّس القيم التقليدية ويرفض التحولات الثقافية، كما تقوم على رؤية عنصرية تُقصي المختلف، وتُعلي من شأن جماعة واحدة بوصفها التعبير “الأصيل” عن الأمة.
وفي الحالة الراهنة، نشهد بوادر ثقافة فاشية تتشكل داخل المجتمع العربي السنّي، كمشارك مباشر في إنتاج القمع، لا كضحية له فقط.
المجتمع نفسه يتحوّل إلى أداة ضغط على أفراده، يراقب، يعاقب، يُقصي، ويُصفّي كل من لا يتطابق مع “الرؤية الجماعية المنتصرة”.
هنا لا تعود المسألة مسألة نظام فقط، بل ثقافة بكاملها تُعيد إنتاج القمع، لكن هذه المرة من قلب المكوّن الذي كان مضطهَدًا.
ولأن الفاشية بطبيعتها ردّ فعل على الشعور بالنقص والخذلان، فهي لا تحتاج إلى مشروع وطني، بل إلى انتصار رمزي يعوّض ذلك النقص، حتى لو كان الثمن هو خيانة فكرة الدولة العادلة.
حين لا يُؤسَّس لفكرة العدالة كحق مشترك، يتحول كل انتصار سياسي إلى تصفية حسابات، لا إلى بداية لمرحلة جديدة.
وإذا لم يُكبح هذا المسار، فسنواجه استبدادًا جديدًا بوجه مختلف، لكن بمنطق الهيمنة نفسه، وأدوات الإقصاء ذاتها، مهما تغيّرت الشعارات أو تبدّلت الوجوه.
وسيُجهض بذلك أي أمل في قيام دولة وطنية يتساوى فيها السوريون، وتُصان فيها كراماتهم، إذ سيُعاد إنتاج الغلبة لمكوّن واحد، على حساب فكرة الوطن المشترك، والعدالة التي لا تُحتكر