وسيُكتب الكثير عن أبي أيهم في المستقبل؛ فمسيرته السياسية طويلة، ونتاجه الثقافي غزير، ولديه عدد هائل من المقابلات والتحليلات والتصريحات، ولديه تجارب تنظيمية عديدة؛ وكل ذلك سيكون في الأيام والسنوات المقبلة موضوعًا للاطلاع والتحليل والبحث والنقد والتقويم من جانب المعنيين، لا سيما من قبل الباحثين المهتمين بمختلف جوانب شخصية ميشيل. فهؤلاء سيتناولون إرثه ودوره وتأثيره بأدوات معرفية موضوعية، تبرز بحيادية بحثية ما يُسجّل للرجل، وما يسجّل عليه. وكل ذلك سيكون في سياق تكريم وتقدير هذا الرجل الكبير الذي جمع بحيوية متميّزة بين الثقافة والممارسة في العمل السياسي؛ وامتلك من المهارات السياسية التي مكّنته دائمًا من فتح قنوات الحوار في أصعب الظروف وأحلكها.
كان يراهن في البدايات على إمكانية الإصلاح. ينتقد الأوضاع والإجراءات، ولا يقطع الأمل. يظل على التواصل مع من يتوسم فيهم الخير من مسؤولي الحزب الحاكم والدولة، لعله يؤثر فيهم بصورة إيجابية. ناقشهم بحكمة استمدت قوتها من وطنية صادقة، وحرص مسؤول على الوطن وأهله. انتقد قرارات نظام حافظ الأسد الخاصة بالإخوان وحزب العمل الشيوعي، وانتقد الفساد. ودعا باستمرار إلى احترام كرامة المواطن وحريته. اعتبر الحرية هي الأساس والمدخل لجميع الحقوق الأخرى. كان يمارس نشاطه علانية، ويعبّر عن أفكاره بكل وضوح وشفافية في الحوارات واللقاءات العامة، ومن خلال المقالات، وعبر اللقاءات مع المسؤولين من النظام، ومع المعارضين. يدعو إلى التفاهم على أساس تجاوز السلبيات، من أجل ضمان مستقبل أفضل للسوريين، وللأجيال السورية المقبلة على وجه التخصيص.
لقد اجتمعتْ في شخصية ميشيل كثير من الصفات الإبداعية التي نادرًا ما تجتمع في شخص واحد؛ فقد كان على أفضل العلاقات مع المفكرين والمثقفين السوريين والعرب، يحاورهم بندية وأريحية. كانت لديه علاقات واسعة مع السياسيين السوريين والعرب من مختلف الاتجاهات والانتماءات، فضلًا عن شبكة اتصالاته مع الأوساط الشعبية. وكان مؤمنًا بأهمية الحوار وجدواه مع الآخر المختلف، ويمتلك الأدوات التي تساعده باستمرار في كسر الجليد، وبناء العلاقات.
بذل جهودًا متميزة في إطلاق لجان إحياء المجتمع المدنيّ التي سرعان ما انتشرت فوق كل الجغرافيا السورية. وكان له دور أساسي في إصدار بيان 99 في أيلول/ سبتمبر 2000، ومن ثم البيان الألفي في كانون الثاني/ يناير 2001. وهو الذي استطاع إقناع الإخوان المسلمين بالانضمام إلى مشروع إعلان دمشق في بداياته عام 2005. كما تمكّن من إقناع القوى التي كانت قد توافقت على الإعلان المذكور بالقبول بفكرة العمل المشترك مع الإخوان، وذلك بعد أن كان نظام حافظ الأسد قد شيطنهم، وأصدر ضدهم القانون 49 عام 1980، الذي يقضي بالحكم بالإعدام على كل من يثبت انتماؤه إلى جماعة الإخوان. وهو قانون العار الذي كانت قد وافقت عليه أحزاب “الجبهة الوطنية التقدمية”، خاصة الحزب الشيوعي الذي كان يبرر وقوفه مع النظام من خلال الزعم بأنه نظام تقدمي، على علاقة جيدة مع الاتحاد السوفيتي، وهو الحزب نفسه الذي يصدر اليوم بيانًا يؤيد فيه إعادة انتخاب بشار الأسد رئيسًا، باعتباره ممثل حليفه (حزب البعث)، وحليف روسيا البوتينية التي يبدو أن أنظمتها الاستخباراتية ما زالت تتحكم في الحزب الشيوعي السوري، وغيره من الأحزاب اليسارية العربية التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفيتي السابق.
ومنذ بداية الثورة السورية، أعلن ابو أيهم وقوفه إلى جانب الثورة السورية، على الرغم من ملاحظاته حول بعض الأطروحات والممارسات. ونظّم بالتعاون مع بعض السوريين لقاء المنبر الديمقراطي، في شباط/ فبراير 2012، ثم أسهم بصورة أساسية في تأسيس اتحاد الديمقراطيين السوريين، في أيلول/ سبتمبر 2013؛ ودخل في تحالفات مع الأحزاب والتيارات الإسلامية في مرحلة الائتلاف. وكان باستمرار يمثل حلقة الوصل بين الجميع من هيئة التنسيق، إلى إعلان دمشق، والأحزاب الكردية، فضلًا عن الشخصيات المعارضة المستقلة.
كان يكتب باستمرار، ويظهر في الإعلام باستمرار، ويتواصل مع السوريين عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يدافع عن الثورة السورية، ويطالب بضرورة احترام تطلعات الشعب السوري نحو الحرية. وكان يحرص دائمًا على أهمية وضرورة اعتماد النظام الديمقراطي، وذلك لإتاحة المجال أمام جميع السوريين للتعبير عن آرائهم، والمشاركة في تحديد مصير شعبهم وبلدهم.
بعد عودته من موسكو صيف عام 2012، التي كان قد زارها على رأس وفد التقى بوزير الخارجية الروسي لافروف، اتصلتُ به من أجل معرفة ما توصلوا إليه مع الروس، والموضوعات التي تمحورت حولها النقاشات، وتنسيق الجهود من أجل القضية السورية؛ وكان إيجابيًا إلى أبعد الحدود، وتوافقنا على لقاء قريب. وقد كنا في المجلس نعدّ لزيارة مماثلة بناء على دعوة روسية، وسافرنا إلى موسكو، والتقينا في ذلك الحين مع وزير الخارجية الروسي وعدد من المسؤولين الآخرين. وما توصلنا إليه هو أن الروس ليسوا في وارد التخلي عن الأسد، وقد عبّرنا عن موقفنا في ذلك الحين، في مؤتمر صحفي عقدناه في موسكو نفسها.
كانت لدينا لقاءات عديدة مع الأخ ميشيل فيما بعد، في أماكن عدة، ولكن اللقاء الأكثر حميمة وقربًا ودفئًا كان ذاك الذي تم بينا مع جمع من الأصدقاء السوريين في بيت ميشيل في باريس؛ حيث تم التأكيد على ضرورة وحدة السوريين، وتماسكهم واستقوائهم ببعضهم في مواجهة النظام. وما زلت أذكر بساطة اللقاء وعفويته، وأجواءه السورية الأثيرة. قدّمت لنا السيدة المحترمة أم أيهم وقتها خبزًا وزيتونًا إلى جانب الزيت والزعتر. ربّما كانت تدري أنها تقدّم لنا ما هو المفضل باستمرار، أما النكهة فقد ذكرتنا بالبلد الجميل الجريح، وشعبه الكريم الطيب المضياف غير المتعصب. ثم كان العمل المشترك في الائتلاف، والتواصل المستمر بيننا في مرحلة ما بعد الائتلاف.
والتزامًا بالواقعية والموضوعية، لا بد أن نبيّن هنا أن الرجل لم يكن ملاكًا، بل كانت له هفواته وأخطاؤه السياسية والتنظيمية، وقد تسبّب أكثر من مرة في إغضاب قطاعات واسعة من السوريين. ويُشار هنا، على سبيل المثال، إلى العاصفة التي كانت بعد ما ذكره عن حديثٍ تم بينه وبين الشيخ أسامة الرفاعي. وكذلك استخدم تعبيرات غير موفقة، في تحديد موقفه من الموضوع الكردي السوري، هذا على الرغم من إعلانه القبول بفكرة الفيدرالية.
وكانت لأبي أيهم أخطاؤه التنظيمية ضمن الائتلاف وخارجه. ولكن الذين عرفوه عن قرب كانوا يعرفون أن هذه الهفوات لم تكن تنم عن مواقف سلبية مسبقة من هذا المكون السوري أو ذاك، أو من المسلمين والدين الإسلامي بصورة عامة، وإنما كانت تدخل ضمن إطار التسرع غير المحمود، والثقة بالنفس التي كانت تستمد نسغها من الإرث الوطني. ولكن، مع ذلك، يسجل للرجل بأنه كان يمتلك مهارة التحرك سريعًا لتجاوز المواقف الإشكالية، وذلك بحكمة سياسية مكّنته دائمًا من تدوير الزوايا، وجبر الخواطر، وتجاوز التباينات الثانوية، بغية التركيز على الصراع الأساسي مع النظام المستبد الفاسد المفسد.
واستمرت العلاقة الإيجابية التفاهمية بيننا، سواء في بعدها الشخصي الإنساني، أم على مستوى اللقاءات الوطنية التي كانت تجمعنا مع الأصدقاء. ودائمًا كان الهمّ السوري هو المحور الذي تتمفصل حوله حواراتنا ومناقشاتنا، ومشاريعنا.
تواصلت معه أكثر من مرة، وهو في المشفى يواجه الجائحة السوداء، كان متفائلًا بأنه سيتمكن من تجاوز الأزمة الصحية. ولكنني حينما اطلعت على وصيته، أدركت أنه قد شعر بقرب الرحيل الحزين. فخاطب السوريين من موقع الأب الخائف على أبنائه وبناته، والحريص على مستقبلهم. وقدّم رسالته الوطنية، وغادر مرتاح الضمير.
ومن أكثر ما يلفت النظر، هذاالإجماع السوري غير المسبوق على شخصية وطنية، في مرحلة من أصعب المراحل وأقساها، وأكثر فرقة وتباعدًا بالنسبة إلى شعبنا السوري المغلوب على أمره. فهل هو الشعور باليتم وسط كل هذا الحطام المجتمعي والعمراني؟ أم أنها الفطرة السورية السليمة التي تدرك أن ما ينقذ السوريين هو حرصهم على القواسم المشتركة، وتجاوز التباينات العابرة، وتقدير أولئك الذين حافظوا على الجسور، وعملوا باستمرار على تجديد الأمل عبر التواصل والتفاعل الإيجابي مع الآخر المختلف من شركاء الوطن والمصير.
تعازينا للأسرة السورية الكبيرة، ولأسرة الفقيد الكبير ميشيل كيلو الذي أتخيله الآن سعيدًا مرتاحًا، معتزًا بكل هذا الوفاء السوري الأصيل.
-----------
مركز حرمون