الآن، ونحن في القرن الحادي والعشرين، تعددت اسباب الهجرة، وأساليبها، لتتعدد بالتالي الظواهر الأدبية التي أفرزتها. ولم يعد بإمكان مصطلح واحد أن يلم بكل تلك التشابكات. لكن صفة واحدة تبدو هي القاسم المشترك في كل تلك الظواهر: التحول الداخلي. التحول الذي يعيشه الكاتب المهاجر، بسبب هجرته. التحول في الوعي، وفي تحديد الهوية، وفي اللغة، وفي مواضيع الكتابة، وفي أساليبها.
الحنين .. واكتشاف الأصول
تقليدياً ارتبطت كتابات المهاجرين بمشاعر الغربة والحنين إلى الوطن، وربما لا يزال هذا الارتباط متجذراً في أذهان البعض. لكن التغيرات التي تسببها الهجرة في الكائن الإنساني، أعمق بكثير من مشاعر الحنين. وهذا ما يظهر واضحاً في الأدب الذي أبدعه مهاجرون من مختلف الجذور، خلال القرن المنصرم، قرن الهجرات الفردية والجماعية الواسعة. يحضر الوطن الأصلي بقوة في كتابات المهاجرين، لكن حضوره ليس مرتبطاً فقط بالحنين. حضور الوطن الأصلي مرتبط غالباً، بإعادة اكتشاف ذلك الوطن. كل مهاجر، وبشكل أعمق، الكاتب والشاعر والمفكر، يكتشف فجأة في وطنه الأصلي تفاصيل ما كان ليراها لو لم يغادر وطنه.
النظر إلى الوطن بعيون أخرى يأخذ بعداً آخر حين يكون الناظر، كاتباً مهاجراً يكتب بلغة البلد الجديد. فالكتابة بلغة أخرى هي في حد ذاتها تحول فكري ووجداني عميق.. فاللغة ليست كلمات فقط، بل هي نظام متكامل، يؤثر في طريقة التفكير وفي توجيه المخيلة. قبل بضعة عقود كان هناك عدد محدود من الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية. وكانوا جميعهم نتاج الواقع الاستعماري في البلدان العربية. بعضهم كان منحدراً من الطبقة الارستقراطية التي صعدت بشكل أو بآخر في ذلك الواقع الاستعماري، فتعلموا في مدارس أجنبية وكانت الفرنسية أو الإنجليزية لغتهم الثقافية الأولى.
اللغة : غنيمة حرب
البعض الآخر كانوا مضطرين لاستخدام "لغة المستعمر" لكي يتمكنوا من فهمه ومن إيصال رسائلهم إليه، حتى أن أبرزهم، الروائي الجزائري كاتب ياسين، وصف اللغة الفرنسية بأنها "غنيمة حرب".
اختفى الاستعمار التقليدي، لكن عدد الأدباء العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية ظل في ازدياد. الهجرات الواسعة التي شهدها نصف القرن الأخير هي التي أنتجت هذا العدد الكبير منهم. يزداد عدد هؤلاء الكتاب في أوساط الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين. ويصعب تصنيف هؤلاء ضمن خانة أدباء المهجر، كما يصعب إخراجهم منها. فقد ولدوا في دول المهجر، أو وفدوا إليها أطفالاً. وبالنسبة لهم فإن بلد المهجر هو وطنهم، ولغته هي لغتههم الأولى، وإن لم تكن اللغة الأم. رغم ذلك فإن كتاباتهم لا تخلو أبداً من الارتباط بالوطن الأصلي، وطن آبائهم. وهم يكتشفونه من جديد بالكتابة، ليكتشفوا فيه ما لم يقصه عليهم الآباء.
أصبحت هولندا، خاصة في العقدين الأخيرين، موطناً لعدد كبير نسبياً من الكتاب ذوي الأصول الأجنبية. ويعيش هؤلاء صراعاً دائماً، داخلياً وخارجياً، حول طريقة تقديم أنفسهم. فهم من جهة يصرون على ضرورة أن يعاملوا ككتاب هولنديين فحسب، دون النظر إلى أصولهم، لكنهم في وقت نفسه يبذلون الكثير من الجهد لتأكيد تلك الأصول في كتاباتهم. ربما يقف هذا الصراع خلف محاولات عدد منهم لتعلم اللغة العربية في عمر متأخر نسبياً.
لغة ام .. بلا استعمال
ينطبق هذا الكلام خصوصاً على الكتاب من أصول مغربية، فهؤلاء يتحدثون في المنزل غالباً باللغة الأمازيغية، ويتعلمون ويتثقفون باللغة الهولندية. ولكن في لحظة ما يحضر سؤال الهوية الثقافية بقوة، فيدفعهم للبحث في تلك الثقافة التي لا سبيل لغور اسرارها دون معرفة اللغة العربية. حافظ بو عزة حسم الأمر مبكراً، ودرس اللغة العربية في الجامعة، ليقدم لاحقاً إحدى أوسع الترجمات للأدب العربي الكلاسيكي إلى الهولنديين. زميله قادر بن علي قرر العيش مؤقتاً في الشرق الأوسط ليعيد علاقته بلغة لم يتكلمها يوما، لكنها بطريقة ما لغته.
التردد بين أن يكون هؤلاءالكتاب كتاباً هولنديين فقط، أو كتاباً من اصول عربية لا يقتصر على الكتاب أنفسهم. فالهولنديون، نقاداً وصحفيين وناشرين، هم أيضاً في حيرة من أمرهم، أمام عشرات الأسماء التي ظهرت في السنوات الأخيرة.. أسماء ذات نبرة غريبة قادمة من هناك، ولكنها راسخة هنا أيضاً.
الأدب الحسنة الوحيدة
التحول الذي تحدثه الهجرة على الفرد المهاجر أدى في النهاية إلى تحول في بلدان المهجر ذاتها، في ثقافاتها وآدابها وفنونها..
وحين سئل بيم فورتاون، السياسي الهولندي المناهض للهجرة، والذي اغتيل عام 2002، ما إذا كان يرى شيئاً إيجابياً في التعدد الثقافي الذي تعيشه هولندا، قال: ربما يكون الأدب الهولندي قد اغتنى بعدد من المواهب الجديدة.. ولكن عدا ذلك لم يجلب "التعدد الثقافي" لهولندا سوى المآسي
الحنين .. واكتشاف الأصول
تقليدياً ارتبطت كتابات المهاجرين بمشاعر الغربة والحنين إلى الوطن، وربما لا يزال هذا الارتباط متجذراً في أذهان البعض. لكن التغيرات التي تسببها الهجرة في الكائن الإنساني، أعمق بكثير من مشاعر الحنين. وهذا ما يظهر واضحاً في الأدب الذي أبدعه مهاجرون من مختلف الجذور، خلال القرن المنصرم، قرن الهجرات الفردية والجماعية الواسعة. يحضر الوطن الأصلي بقوة في كتابات المهاجرين، لكن حضوره ليس مرتبطاً فقط بالحنين. حضور الوطن الأصلي مرتبط غالباً، بإعادة اكتشاف ذلك الوطن. كل مهاجر، وبشكل أعمق، الكاتب والشاعر والمفكر، يكتشف فجأة في وطنه الأصلي تفاصيل ما كان ليراها لو لم يغادر وطنه.
النظر إلى الوطن بعيون أخرى يأخذ بعداً آخر حين يكون الناظر، كاتباً مهاجراً يكتب بلغة البلد الجديد. فالكتابة بلغة أخرى هي في حد ذاتها تحول فكري ووجداني عميق.. فاللغة ليست كلمات فقط، بل هي نظام متكامل، يؤثر في طريقة التفكير وفي توجيه المخيلة. قبل بضعة عقود كان هناك عدد محدود من الكتاب العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية. وكانوا جميعهم نتاج الواقع الاستعماري في البلدان العربية. بعضهم كان منحدراً من الطبقة الارستقراطية التي صعدت بشكل أو بآخر في ذلك الواقع الاستعماري، فتعلموا في مدارس أجنبية وكانت الفرنسية أو الإنجليزية لغتهم الثقافية الأولى.
اللغة : غنيمة حرب
البعض الآخر كانوا مضطرين لاستخدام "لغة المستعمر" لكي يتمكنوا من فهمه ومن إيصال رسائلهم إليه، حتى أن أبرزهم، الروائي الجزائري كاتب ياسين، وصف اللغة الفرنسية بأنها "غنيمة حرب".
اختفى الاستعمار التقليدي، لكن عدد الأدباء العرب الذين يكتبون بلغات أجنبية ظل في ازدياد. الهجرات الواسعة التي شهدها نصف القرن الأخير هي التي أنتجت هذا العدد الكبير منهم. يزداد عدد هؤلاء الكتاب في أوساط الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين. ويصعب تصنيف هؤلاء ضمن خانة أدباء المهجر، كما يصعب إخراجهم منها. فقد ولدوا في دول المهجر، أو وفدوا إليها أطفالاً. وبالنسبة لهم فإن بلد المهجر هو وطنهم، ولغته هي لغتههم الأولى، وإن لم تكن اللغة الأم. رغم ذلك فإن كتاباتهم لا تخلو أبداً من الارتباط بالوطن الأصلي، وطن آبائهم. وهم يكتشفونه من جديد بالكتابة، ليكتشفوا فيه ما لم يقصه عليهم الآباء.
أصبحت هولندا، خاصة في العقدين الأخيرين، موطناً لعدد كبير نسبياً من الكتاب ذوي الأصول الأجنبية. ويعيش هؤلاء صراعاً دائماً، داخلياً وخارجياً، حول طريقة تقديم أنفسهم. فهم من جهة يصرون على ضرورة أن يعاملوا ككتاب هولنديين فحسب، دون النظر إلى أصولهم، لكنهم في وقت نفسه يبذلون الكثير من الجهد لتأكيد تلك الأصول في كتاباتهم. ربما يقف هذا الصراع خلف محاولات عدد منهم لتعلم اللغة العربية في عمر متأخر نسبياً.
لغة ام .. بلا استعمال
ينطبق هذا الكلام خصوصاً على الكتاب من أصول مغربية، فهؤلاء يتحدثون في المنزل غالباً باللغة الأمازيغية، ويتعلمون ويتثقفون باللغة الهولندية. ولكن في لحظة ما يحضر سؤال الهوية الثقافية بقوة، فيدفعهم للبحث في تلك الثقافة التي لا سبيل لغور اسرارها دون معرفة اللغة العربية. حافظ بو عزة حسم الأمر مبكراً، ودرس اللغة العربية في الجامعة، ليقدم لاحقاً إحدى أوسع الترجمات للأدب العربي الكلاسيكي إلى الهولنديين. زميله قادر بن علي قرر العيش مؤقتاً في الشرق الأوسط ليعيد علاقته بلغة لم يتكلمها يوما، لكنها بطريقة ما لغته.
التردد بين أن يكون هؤلاءالكتاب كتاباً هولنديين فقط، أو كتاباً من اصول عربية لا يقتصر على الكتاب أنفسهم. فالهولنديون، نقاداً وصحفيين وناشرين، هم أيضاً في حيرة من أمرهم، أمام عشرات الأسماء التي ظهرت في السنوات الأخيرة.. أسماء ذات نبرة غريبة قادمة من هناك، ولكنها راسخة هنا أيضاً.
الأدب الحسنة الوحيدة
التحول الذي تحدثه الهجرة على الفرد المهاجر أدى في النهاية إلى تحول في بلدان المهجر ذاتها، في ثقافاتها وآدابها وفنونها..
وحين سئل بيم فورتاون، السياسي الهولندي المناهض للهجرة، والذي اغتيل عام 2002، ما إذا كان يرى شيئاً إيجابياً في التعدد الثقافي الذي تعيشه هولندا، قال: ربما يكون الأدب الهولندي قد اغتنى بعدد من المواهب الجديدة.. ولكن عدا ذلك لم يجلب "التعدد الثقافي" لهولندا سوى المآسي


الصفحات
سياسة








