يقول صاحبنا الراوي: كلام جميل فعل بالحاضرين مالا يمكن لجيش من المخابرات أن يفعله. توجمت وجوه الحاضرين وساد الصمت القاعة وجفت الدماء في العروق وتسمرت العيون على جميل قبل أن يردف قائلاً: ونحن ولاد عمكين من تغلب، حتى عاد الهمس يغطي دقات القلوب التي أشعلها كلام جميل في الصدور.
يعرف السوريون هذه الشتيمة جيداً، فمثلاً إذا ما أراد أحد ضباط مخابرات الأسد أو مسؤول من الساحل أن ينعت جماعة من البشر بالكلاب يقولها "كليب" بتسكين الكاف وكسر اللام، بينما اسم "كُلَيب" بضم الكاف وفتح اللام.
لم تنته القصة؛ يقول الراوي إنه وبعد أن تحسست رقبته الخلاص وقف على قدميه وما زالت ركبتاه تصطكان ببعضهما البعض، فحيا جميل مستبشراً الخلاص بصلة القربى الطارئة التي اختلقها شقيق حافظ لتوه (نسّاب عرب سوريا وقبائلها!!) وكانت أصداء مجازر حماة تتردد بين السوري ونفسه خوفاً ورعباً، فقال: والنعم منك راعي النسب.. أشهد بالله أننا ولاد كليب وأقرباؤكم من نفس النسل (يقصد في خلده أنهم أولاد كلاب) وأضاف مشيراً بشاهدته إلى الحضور: بل إن أغلب الحاضرين ولاد كليب وأقرباؤكم، دون أن يجرؤ أحد منهم أن ينبس ببنت شفة، رغم علمهم بمقصده.
كان جميل الأسد حينها يؤسس لجمعية "الإمام المرتضى" بالتزامن مع صراع حافظ مع الإخوان المسلمين مطلع ثمانينات القرن الماضي والمجازر التي ارتكبها بحق أهالي حماة وعشرات الآلاف من أبنائها.. وكان جميل الأسد قد انتزع لنفسه آنذاك لقب "الإمام آية الله جميل الأسد" دون أن يدل على "تدينه" سوى لحيته التي أزالها شقيقه حافظ بسبب تأييده لمحاولة انقلاب شقيقهما رفعت عام 1984 الذي كان يقود ميليشيا (سرايا الدفاع) آنذاك والتي ذاع صيتها الإرهابي في الشارع السوري في الثمانينات.
وعلى ذمة دراسة نشرها (مركز حرمون للدراسات) إنه بعدما نتف حافظ لحية شقيقه جميل الذي غاب عن الذكر مذاك وأعوانه من مريدي "الإمام المرتضى" الذين كانوا يحظون بدعم مالي كبير من إيران؛ صاروا بعد عقود من ذلك التاريخ الدامي بذرة ما يعرف بالشبيحة الذين زادوا فساد نظام الأسد فساداً وأوغلوا في حياة الناس قتلا وسلبا تنكيلاً.
وقد يسأل سائل عن مناسبة القصة. فقد صادفت مطلع شهر شباط/فبراير الجاري، الذكرى التاسعة والثلاثين لمجازر حماة (2/2/1982) والتي تقدر بعض المصادر التاريخية أن عدد ضحاياها فاق الثلاثين ألفاً. أبيدت فيها أحياء كاملة بأطفالها ونسائها وشيوخها، في سيناريو مصغّر لما يجري اليوم في عموم سوريا على يد نفس العصابة لكنه أشد وأعتى، وعليه فإنها أكبر تأكيد على مقولة "الجريمة لا تسقط بالتقادم". جريمة تنكأ ذاكرة السوريين المدماة رغم بحر الدم الغارقين به اليوم.
اليوم وبعد ما يقرب من أربعة عقود تقض أرواح الضحايا مضجع رفعت الأسد في أوروبا محاصراً ذليلاً في نهاية لم يكن يتصورها حين كان يذبح السوريين هناك بالجملة، وأما لمن رضوا أن يكونوا "ولاد كليب" على اختلاف مشاربهم نقول: ونعم النسل والنسب!
---------
اورينت نت