بمحاولة تتبع أصول هذا الرجل كما أوردها الكثيرون، فقد بات معروفاً أنه ولد لأب يمني حضرمي، وأم اختُلف على نسبها إن كانت حضرمية أم زنجبارية. ولد الطفل عام 1948 في المحمية البريطانية زنجبار بعد هجرة والديه إليها. عام 1963 سوف تستقل جزيرة زنجبار، لتنضم بعدها إلى تانجانيقا وتشكلا معاً جمهورية تانزانيا الاتحادية، وكما هو واضح، فإن اسم الجمهورية الجديدة منحوت من حرفين من كلٍّ من طرفي الاتحاد. أردت إيراد هذا الإيجاز عن تانزانيا لأزيد الإشكال في أصول الرجل وتحديد هويته. فهل هو يمني أم زنجباري أم تانزاني أم بريطاني بحسب جنسيته واستقراره المديد في ذاك البلد الأخير؟

نحن نعلم، منذ بدء التاريخ المدون، عن تغير خرائط الأمم والإمبراطوريات والممالك، وهجرات الأفراد وحتى الشعوب، من جغرافيا إلى أخرى، عرفوا خلالها أكثر من وطن وأكثر من سماء

بالعودة إلى رومانسية مقطع الشاعر هولدرلين. من أين نأتي بذاك المواطن والرجل السعيد المستقر في بيت، في وطن معروف، حتى تضيء له سماؤه بصورة أجمل؟ من أين نأتي به في عالمنا ذي السماوات الغائمة التي لا تشبه في شيء سماء هولدرلين الصافية؟ نحن نعلم، منذ بدء التاريخ المدون، عن تغير خرائط الأمم والإمبراطوريات والممالك، وهجرات الأفراد وحتى الشعوب، من جغرافيا إلى أخرى، عرفوا خلالها أكثر من وطن وأكثر من سماء. بعد جيل آخر سينسى أبناء صاحب نوبل وأحفاده أن كنية جدهم الأصلية كانت "قرنح"، هذا إن استقروا في بلدهم الحالي، ولم ينتقلوا في هجرة أخرى ويضطروا مرة أخرى لتبديل كنيتهم الحالية، مع افتراضنا أنهم اليوم ما زالوا يكترثون لأصول عائلتهم تاريخياَ.

في العالم أجمع، وعلى نحو خاص في منطقتنا، كانت الهجرات هي الحالة الأعم للأشخاص، ولو تحدثنا عن سوريا تحديداً فسوف نجد أنها كانت عبر تاريخها، وما زالت "كوريدور" للهجرات، منها بسبب الكوارث التي حلت في عديد من المحطات التاريخية، والأغلب بسبب تغييرات الحدود، فقبل نحو قرن كنا جميعاً نحمل هويات السلطنة العثمانية، ومنذ تلك الفترة وما قبلها توزع مئات الآلاف من سكان المنطقة في أربع جهات الأرض وتغيرت أسماؤهم وكنياتهم، ومعظمهم اليوم لا يجيد اللغة العربية، إن لم يكن قد نسي كل هذا الانتماء أصلاً. وفي كثير من الحالات هناك سوريون من غير العرب قد اضطروا بسبب التمييز القومي والعنصرية إلى تبديل أسمائهم وكنياتهم، ومنعوا حتى من الحديث بلغتهم الأم، الكرد السوريون أسطع الأمثلة.

بعد جيلين أو ثلاثة قد ينسى أحفاد هؤلاء أنهم سوريون، وسوف ينخرطون بهموم ومشكلات وسياسات مجتمعاتهم الجديدة

اليوم بعد عشر سنوات من ثورة السوريين، وتهجير وهجرة الملايين منهم إلى العديد من دول العالم، فإن الكثيرين منهم بدؤوا يحصلون على جنسيات بلدانهم الجديدة، وقد يكون محرجاً أن نستعرض كم منهم قد غيروا أسماءهم وكنياتهم، ليس لقلّة الأصالة فيهم، وإنما بهدف التعايش مع تلك المجتمعات الجديدة، وربما بسبب طبيعة لغات تلك البلدان. بعد جيلين أو ثلاثة قد ينسى أحفاد هؤلاء أنهم سوريون، وسوف ينخرطون بهموم ومشكلات وسياسات مجتمعاتهم الجديدة، وهذا من طبيعة الأمور. أعتبر نفسي شخصياً مثالاً جيداً في هذا الحقل. جدي المباشر هاجر مع والده من موطنه الأصلي واستقرا في سوريا، بعد توقف في تركيا لسنوات قليلة. أنا اليوم أكتب باللغة العربية ولا أجيد الكتابة بغيرها، وفي اهتماماتي العامة فقد انخرطت طوال حياتي حتى أذني في انتمائي السوري اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ولم أكن أتابع من أخبار وطن أجدادي إلا ما يرد بين فترة وأخرى عبر نشرات الأخبار، أتابعها كما أتابع كل الأخبار الدولية. هل من الطريف الذكر أنه لو لم يهاجر جدي، كنت سأكتب مادتي هذه باللغة الروسية، ولو لم يتابع الهجرة من محطته الأولى لكنت اليوم أكتبها بالتركية. أنا اليوم كملايين السوريين الذين هجّرتهم مجازر الأسد، لا أعلم بأي لغة سيتحدث أحفادي وأبناؤهم.

تلفتني غالباً الأخبار العلمية الخفيفة عن تحليلات DNA لبعض الأشخاص بهدف معرفة خارطتهم الوراثية، وأتابع بطرافة كيف أنه ليس هناك من سلالات صافية، وكيف يتفاجأ البعض أن في جيناتهم أصولا لأعراق لم يتوقعوها. أحياناً يكره صاحب التحليل النتائج على أرضيّة عنصرية، فهو يستنكر بل ولا يريد أن تكون في جيناته أصول أفريقية أو عربية أو يهودية. أعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن لجنة نوبل لم تُقِم لانتماء الرجل، أفريقي مسلم من أصول عربية، أي اعتبار. هو فاز بحسب بيان الجائزة بسبب سرده المتعاطف مع مصير اللاجئين العالقين بين الثقافات والقارات، مع إشادة البيان بتمسكه المتفاني بالحقيقة وإحجامه المذهل عن التبسيط. البيان لم يذكر أية إشارة إلى دينه أو عرقه أو قوميته. فقط نحن انشغلنا بها.
-----------
تلفزيون سوريا