تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

في أهمّية جيفري إبستين

26/11/2025 - مضر رياض الدبس

طبالون ومكيودون وحائرون

07/11/2025 - ياسين الحاج صالح

"المتلحف بالخارج... عريان"

07/11/2025 - مزوان قبلان

كيف ساعد الهجري و"قسد" سلطة الشرع؟

07/11/2025 - حسين عبد العزيز

” قسد “.. ومتلازمة انتهاء الصلاحيّة

07/11/2025 - رئيس تحرير صحيفة الرأي

مفتاح الشَّرع الذَّهبي

06/11/2025 - د. مهنا بلال الرشيد


في أهمّية جيفري إبستين




عادت قضية جيفري إبستين أخيراً إلى الانفجار في الولايات المتحدة، وأدّت، أخيراً، إلى انقسامٍ جدِّي وكبيرٍ في حركة ماغا ومن ثم في الحزب الجمهوري. وإبستين هذا رجلُ أعمالٍ أميركي يهودي ثري، متورّطٌ مع صديقته الناشطة الاجتماعية البريطانية غيسلين ماكسويل، في تجنيد قاصرات لتقديم خدمات جنسية لرجال ذوي نفوذ في المال والأعمال والسياسة. وكشفت التحقيقات عن تورط شخصياتٍ مهمة معه في هذه اللعبة. وقد رضخ ترامب أخيراً لمطالب متزايدة بنشر الرسائل الالكترونية والسجلات التي تكشف أسماء الذين تعاملوا مع إبستين، وتحقيق وعد حركة ماغا بهذا الخصوص، بعد أن حاول إقفال الملف في وزارة العدل. وقد صوَّت مجلسا النواب والشيوخ بأغلبية ساحقة على قانون شفافية ملفات إبستين


  الذي ينص على إلزام وزارة العدل بنشر جميع الوثائق غير المصنّفة المتعلقة بملف التحقيق مع إبستين وإدانته. وقد تَكشفُ هذه السجلات أسماء جديدة تورّطت معه، ومن الأسماء المتداولة: الأمير أندرو، وهو دوق يورك والابن الثاني للملكة إليزابيث الثانية، ورجل الأعمال الثري والمبعوث الأميركي الحالي إلى سورية توم برّاك، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، ووزير الخزانة الأميركية الأسبق لاري سومرز، وغيرهم؛ حتى دونالد ترامب نفسه ورد اسمه في هذه المراسلات. وقد وُجِد إبستين ميّتاً في مكان اعتقاله على خلفية هذه القضية، وقيل إنّه انتحر شنقاً. وقد كان على علاقة وطيدة مع إسرائيل، ومع أن علاقته مع جهاز مخابراتها (الموساد) غير مثبتة في الولايات المتحدة (لها كثيرٌ يسوغ طرحها)، إلا أن علاقته مع إسرائيل بالأعمال ومسائل الأمن موثقة. وفي الأحوال كلها، يبدو الرجل وكأنه يشبه مشروعَ إسرائيل، ليس لأنه قادرٌ على كركبة أميركا حتّى من قبره، بل لأنه مهمٌ بالنسبة لأميركا أيضاً؛ فكما قال جو بايدن مرةً عندما كان نائباً للرئيس: "لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان على الولايات المتحدة ابتكارها". وهكذا إبستين؛ لو لم يكن أميركيّاً لكان على أميركا أن تبتكره. ولا يختلف ما فعله إبستين، وكلُّ الأسماء "المرموقة" التي استفادت من خدماته، عن الذي كان يفعله تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)؛ فسلوكه مع فيرجينيا جوفري، مثلاً، وهي إحدى ضحاياه القاصرات في حينها، لا يختلف عن سلوك "داعش" مع فتيات إيزيديات إلّا بأسلوب الإخراج؛ فالتنظيم المذكور أخرج هذا الفيلم على طريقة القرن الثامن وبمنهج أنتيكا وعناوين قديمة مثل "السبايا"، أما إبستين فلجأ إلى إخراج معاصر بأسلوب القرن الواحد والعشرين.

لو لم يكن إبستين أميركيّاً لكان على أميركا أن تبتكره

إبستين مهمٌ لأميركا لأنَّه استمرارٌ لحالة اللامبالاة المنتشرة عالميّاً، ومهمٌ بقدر ما هو نتيجةٌ لهذه الحالة أيضاً. في هذا العالم الذي وصلنا إليه، لا تهتزّ الدينا كثيراً لما حصل في غزة مثلاً، أو الفاشر، أو بوتشا، أو السويداء، مع أنّه عالم المعلومات وتقنيات التواصل المدهشة، إلّا أنّ العالم الأخير يهتز لما يصلح أن يكون "تريند" فحسب، ولا مبالغة في القول إن ثمّة في هذا العالم من هم حريصون على استمرار هذه الحالة. وبطبيعة الحال، لا شيء مؤهل ليكون "تريند" عالمياً، ما لم يرتبط باللامبالاة إزاء الأشياء التي تعطي للحياة معنى. وإبستين ظاهرة تزدهر في العالم الأخير لتضمن استمرار التفاهة، وغياب المعنى، وتوليد اللامبالاة؛ فالنسخة الأخيرة من هؤلاء اللامعين في عالم الأعمال يصنعون عالمهم التافه بأيديهم، يروّجونه، ويضمنون استمراره، ويصبحون مُعلمين للتفاهة في أوساطهم، ومُرشدين في الطريق إليها. وعندما وصلت هذه النوعية من البشر إلى السياسة أخيراً، واهتدت إليها واحدةً من أدوات الأعمال، أصبحوا ينتجون سياسةً متطابقةً مع الاجتماع "المهني" السخيف الذي صنعه الرؤساء التنفيذيون للشركات متعدّدة الجنسيات، وفرقهم الإداريّة، وتحديداً الشركات الأميركية والبريطانية، إذ يجري تحويل مبدأ الفريق والتعاون وشبكات الثقة الناتجة من تشارك العمل والنجاح والطموح إلى تشارك التفاهة فحسب، وبناء منظومة أعمال تشكِّل التفاهة والسطحية رأسَ مالٍ مهماً فيها.

ليس إبستين الوحيد في هذه المنظومة، مثلاً في 2023 دينت شركة الأدوية البريطانية العملاقة جي أس كي (GSK) التي تعمل في أغلب الدول، بتهمة تقديم تسهيلاتٍ جنسيةٍ لأطباء في الصين مقابل صرف أدوية للشركة، وقد قُدِّمَت ادعاءاتٌ مشابهةٌ ضدها في بولندا، ولبنان، والعراق، والأردن. والشركة بهذا الفعل قد حوَّلت فريقاً متخصّصاً بعلم الأدوية، وفي العلاج الذي يخدم الإنسانية، إلى فريقٍ لا يبتكر شيئاً إلا التفاهة، والفساد، واللامبالاة إزاء المرض والمريض، وحوَّلت الجنس إلى وسيلة ترويجية لكتابة منتجاتها في وصفاتٍ دوائية بغرض زيادة المبيعات. تحوَّلت هذا الطريقة في ممارسة الأعمال إلى ظاهرة تتنافس في إتقانها شركاتٌ كبيرة، تدير رؤوس أموالٍ ضخمة جدّاً، وينغمس فيها الموظفون، ويُنمُّون مهاراتهم بالفساد و"الحربقة" يوماً بعد آخر، ويفقدون العلم والأخلاق بالقدر نفسه الذي يكسبون مهارة الفساد. والكارثة أن هذه الطريقة وصلت إلى السياسة، ويبدو أنها نجحت في السيطرة على قيادة أقوى الدول وأغناها، الولايات المتحدة.

إبستين مهمٌ لأميركا لأنَّه استمرارٌ لحالة اللامبالاة المنتشرة عالميّاً، ومهمٌ بقدر ما هو نتيجةٌ لهذه الحالة أيضاً

حين يتتبع المرء ملف إبستين الطويل العريض، تستوقفه سيدة اسمها إيمي والاس، وهي كاتبة وصحافية أميركية عملت على كتابة مذكرات الضحية فيرجينيا جوفري، وقد نشرت بعنوان "فتاة لا تخصّ أحداً: مذكّرات عن براءة ضائعة، وعبودية معاصرة، ورحلة تحوّل". وليست كتابة هذه المذكرات السبب الوحيد الذي يجعل والاس لافتة، بل إنّ والاس نفسها كانت ضحيةً من نوعٍ آخر، فقد كانت من أتباع كارلوس كاستانيدا، وهو من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في القرن العشرين، وقد جمع بين الروحانيات والأنثروبولوجيا والتلاعب العاطفي و"الزعبرة" التي لاقت شهرة عالمية وعلمية في حينه، ولكنَّها انهارت لاحقاً بطبيعة الحال. وكانت والاس تابعة له، مثل سيداتٍ كثيراتٍ أحاط نفسه بهنّ، ومارس عليهنّ شيئاً يشبه السحر إلى أن حوَّلوه إلى معلمٍ مقدَّس، مع أنه أطلق عليهنّ اسم الساحرات. تحرّرت والاس من هذه الورطة لاحقاً، وطوَّرت وعياً حرّرها. في كتابها الذي نشرته بعد الخلاص من كاستانيدا بعنوان "تلميذة الساحر، حياتي مع كارلوس كاستانيدا" تقول وقد شعرت بالحرية: "أكتب الآن لذاتي ولا أحد يكتبني". وفسَّرت الكثير من أسباب هذه التبعية العمياء، وتسليم التفكير للآخرين، ومن أهم الأسباب التي قدمتها فكرةُ البحث عن المعنى من دون فحص منهجيات هذا البحث وطرائقه، ومن دون مَلَكة النقد. وقدَّمت فكرةً مهمةً، أن الإنسان حين يبحث عن معنى خارج ذاته من دون أن يمتلك مَلَكة النقد، ولا يدرك أهمية بناء النقد وأهمية توجيهه واستقباله، يصبح عرضةً لأن يختطف شخصٌ آخر تلك الذات، ويصوغها بطريقته وأسلوبه. وتقول والاس في الكتاب نفسه: "كنت أبحث عن شخصٍ يخبرني من أكون، وكان كارلوس الشخص المستعد دائماً لإخباري بذلك". يعني ذلك أن البشر عندما تجتاحهم آفة غياب التفكير، والتوقف عن طرح الأسئلة، يبدؤون بقبول الإجابات الجاهزة التي تتوفر بكثرة عند الدجالين والنصابين، الذين يصبحون معلمين ومؤثرين قادرين على إعادة صياغة الذوات بالكامل. وقد يفسّر ذلك اهتمام والاس بملف إبستين، فهي تدرك جيّداً ما الذي يعنيه غياب المعنى، وما الذي يعنيه فقدان القدرة على إنتاج المعنى، وعواقب البحث عن المعنى غير المفحوص في غياب النقد والتفنيد، وصولاً إلى الحالة التي يسمّيها أفلاطون "النجاسة"؛ فأفلاطون ربَطَ الطهارة بحضور النقد والتفنيد، ورأى أن الذي لم يخضع للنقد والتفنيد، غير طاهرٍ حتى ولو كان الملك العظيم. ويبدو أن حالة اللامبالاة التي تجتاح العالم اليوم من بوابة الأعمال، تقضي على مَلَكة النقد، ووصولاً إلى إصابة العالم بالرجس الأكبر، ولنعرف نوعية هذا الرجس أكثر، نتأمل في مقولة الضحية فيرجينيا جوفري التي نقلتها عنها إيمي والاس: قد تَنسى ذاكرتُنا الأيامَ والتواريخ، لكن وجهَ مَن اغتصبك، وهو يبعد عنك ستّ بوصات فقط، لا يُنسى أبداً.
---------
العربي الجديد


مضر رياض الدبس
الاربعاء 26 نوفمبر 2025