نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه

24/06/2025 - عبير داغر إسبر

انهيار إمبراطورية إيران

17/06/2025 - براءة الحمدو

حزب حاكم جديد في سورية

08/06/2025 - بشير البكر

المفتي قبلان صاحب الرؤية

02/06/2025 - يوسف بزي

المثقف من قرامشي إلى «تويتر»

24/05/2025 - د. عبدالله الغذامي :

التانغو" فوق حطام المنطقة

22/05/2025 - عالية منصور


مائة عام من غربة أناستازيا .....روسية قذفت بها الثورة إلى البحر فتبنتها بنزرت التونسية وطنا وقبرا




الهدهد - صوفية الهمامي - خرجت بنزرت التونسية عن بكرة أبيها اليوم لتودع آخر روسية قذفتها بارجة حربية من ايام الثورة البلشفية على شواطئ تونس فجعلت من بنزرت وطنا وصارت وهي الغريبة ذاكرة للمدينة الى ما قبل بضعة ايام فعن سن 97 سنة غادرت أناستازيا شيرانسكي الحياة صبيحة يوم الاثنين 21 ديسمبر 2009 ودفنت صبيحة يوم الخميس 24 ديسمبر بعد معركة شرسة مع الحياة، أناستازيا الروسية التي ساقها القدر وهي طفلة لم تتجاوز العشر سنوات لتجوب البحار على متن بارجة حربية وتكون شاهدة عصر حقيقية اختارت مدينة بنزرت التونسية لتكون مرساها الأخير.


أناستازيا شيرانسكي ذاكرة بنزرت المتحركة
أناستازيا شيرانسكي ذاكرة بنزرت المتحركة
علاقتها بمدينة بنزرت علاقة عميقة تفوق كل التصورات فقد أسست مفهوما مختلفا للعناوين المكانية، فالسيدة أنستازيا وبتقدم الفيض الزمني واتساع معرفة أهل مدينة بنزرت بها صارت عنوانا لبنزرت فالمدينة ومن يسكنونها يعرفونها، وجميعهم توطدوا بالمكان بعد أن أصبحت شيرانسكي "المكين" الذي يمثل لديهم رمزية المكان..
بنزرت بكت عنوانها وصديقة عاصرت تاريخها وهي تحت الاحتلال الفرنسي، إذن ليس غريبا أن تخرج بنزرت اليوم بكل من فيها من مسلمين ومسيحيين لتوديع شيرانسكي التي أوصت بأن تدفن إلى جوار والدها في "مقبرة النصارى" ببنزرت، أين حضر السفير الروسي اندريه فوادي ميروفتشي بولاكوف الذي أبنها بكلمات معبرة مذكرا بنضالها وحرصها على توحيد الأديان، كما حضرت إبنتها تتيانا أبولان من فرنسا برفقة أبنائها وأحفادها، سارج الإبن البكر لشيرانسكي لم يحضر تأبين والدته لأنه يعاني من أمراض ألزمته الفراش.
كما حمل بارتران دي لانواي رئيس بلدية باريس شقيقة جون إيف دي لانوي رسالة قرأها أمام الحضور ضمنها أسفه الشديد لفقدان صديقة والدته وأستاذته التي علمته الرياضيات والمرأة التي قضت حياتها في ترسيخ قيم الحب.
أما الكنيسة الأرثوذكسية ببنزرت التي تزيت للإحتفال بعيد ميلاد المسيح فقد سجيت فيها شيرانسكي وحضر مواطنوها الروس للإلقاء النظرة الأخيرة على امرأة مثلت تاريخهم وذاكرتهم .

يوم ذهبت إليها في 5 سبتمبر 2005، كان كل شيء مناقضا لقوانين الطبيعة، كان اليوم قائظا، درجة الحرارة كانت أربعون درجة مائوية في الظل وهو ما لا يحدث عادة في تونس في موسم الخريف، حملت الخريف وذهبت إلى امرأة هي بحكم السنين في شتاء العمر تخطّت التسعين بثلاث سنوات، خفت على باقة الورد التي حملتها إليها من أن تهتك بها الحرارة طوال المسافة الفاصلة بين تونس ومدينة بنزرت والبالغة ستين كيلومترا.
لم أكن أعلم أن لقائي مع أناستازيا شيرانسكي يصادف يوم عيد ميلادها الثالث والتسعين.
تملّكني وأنا في طريقي إليها هاجس الزمن ومعناه، اختلطت في ذهني الدقائق والساعات والأيام والسنون، لقد بدا لي عمر المرأة التي ساقتها الأقدار إلى بنزرت من روسيا وهي طفلة قبل تسعة عقود موغلا في الطول، ولا أخفي سرّا متى قلت أني كنت أخشى ألا أجدها وأضيّع فرصة الحديث معها، وبين وساوس فرصة وجودها واحتمال انتقالها إلى العالم الآخر، ضاع معنى الزمن في ذهني خاصة وأنا أقترب من مدينة بنزرت ومياه بحرها الغامض... بحر بنزرت العظيم، هذه الرقعة من المتوسط الموسومة بالجمال والرعب والقسوة معا .
لماّ رأيت البحر، ذلك الوقار الدامي تخيلت أن القيظ قد زال، وكلّما كبرت مساحة الماء أمامي، تقلّص حجم المدينة أمام ناظري، فمن هذا البحر بدأ احتلال تونس سنة 1881، ومن هذه المدينة بالذات، ومن مينائها تحديدا احتفلت فرنسا بوصول أسطولها الحربي لتحتل وتبسط نفوذها على بلد بأكمله.
ومن مفارقات التاريخ أيضا، أن يغادر آخر جندي فرنسي البلاد التونسية من مياه بحر بنزرت يوم 15 أكتوبر سنة 1963 رغم أن استقلال تونس تحقّق يوم 20 آذار 1956. ومنذ ذلك التاريخ سميت بنزرت "بمدينة الجلاء ".
وفي هذه المدينة شاء لي قدري أن أدرس مرحلتي الثانوية فيها وأقيم بمبيت الفتيات لسنوات تعرفت فيها على تفاصيل بنزرت الباذخة بتاريخها وواكبت الاحتفال السنوي لعيد الجلاء صبيحة كل 15 أكتوبر. كان الطوفان البشري يعم بنزرت في ذلك اليوم. كنت أقف مع زملائي التلامذة وراء سياج حديدي رافعين العلم التونسي مرديين : "الجلاء ... الجلاء" إلى أن يمر موكب الزعيم الحبيب بورقيبة في سيارته المكشوفة السوداء في اتجاه مقبرة الشهداء رافعا يده اليمنى للتحية بينما تقف على كتفه حمامة بيضاء، منتشيا بصوت المرحومة علية الذي كان يملأ فضاء المدينة وهي تردد : بني وطني يا ليوث الصدام وجند الفداء ...

على ميناء بنزرت، رست قبل ثمانية وثمانين عاما 33 باخرة روسية حاملة معها طفلة لاجئة اسمها أناستازيا شيرانسكي، مازالت مقيمة إلى الآن في مدينة بنزرت حاملة في ذاكرتها هول حربين عالميتين و شاهدة عيان على صعود القوة الشيوعية إلى سدّّة الحكم في دول البلقان وما كان يعرف في وقت قريب بدول الاتحاد السوفياتي كما عاشت بعقلها وعواطفها انهيار هذه القوّة وسقوطها.
لقد أسرّت لي وهي تمسك بالعلم الروسي أن من بين الأشياء التي أرّقتها في حياتها ودمغت شعورها مشاهدة المطرقة والمنجل من سنة 1917 إلى سنة 1989 وخلال هذه الفترة لم تشعر بأن لها هويّة، بل هي مجرد كائن موجود على هامش التاريخ تتقاذفه أمواج البحر على متن بارجة حربية تجوب البحار حاملة أعدادا كبيرة من اللاجئين تلاشوا وتفرّقوا من حولها ولم يبق من الستة آلاف لاجئ الذين كانت معهم أناستازيا يوم وصولهم يابسة بنزرت غير أناستازيا وحدها يؤنسها هرم من الذكريات جله مفزع.
أسرار الفيلا رقم 4
لمّا وصلت شارع "بيار كوري" الواقع على الطرف الشمالي من مدينة بنزرت كنت أمام سياج فيلا تحمل رقم 4، كان لون الجدران باهتا ويوحي بأن البناء يعود إلى بداية القرن الماضي، إنه منزل السيدة أنستازيا شيرانسكي، الجرس كان معطّلا والباب الخارجي نصف مفتوح، ناديت من الخارج فأطلّ عليّ رجل تجاوز الستين من عمره يحمل تقاسيم أهل أوروبا الشرقية، استقبلني بابتسامة باهتة وهو يحتضن كلبا من نوع "الكانيش"، أومأ إليّ بالدخول قائلا : "إنّها هنا في الداخل". الرجل هو ابنها الصحفي المتقاعد سارج شيرانسكي.
كان الخريف يلف جسدي ويزرع ذراعي ماء وأنا أطوّق باقة الورد.
في الباب المفضي إلى بهو المنزل كنت أمام "الشتاء"... إنه شتاء دافئ على غير عادة شتاء روسيا الذي يرعبنا بمجرد مشاهدته على شاشة التلفاز... إنه شتاء هامس... قرص الشمس في سمائه لم يهتريء رغم ظلال التجاعيد ، البرق كان وعيا يتفجر من العينين.. والرعد كان صوتا صارخا غاضبا في وجه التاريخ الظالم... امرأة نحيفة، رجلاها متسمرتان على أرض نظيفة لا مطر ولا طين فيها. طوّق "الشتاء" عنقي وطبع على خدّي قبلة لا أحرّ منها غير قيظ الخريف الذي كان يلفحني خارج المنزل، اهتزت غبطة لما سلمتها باقة الورد ، لمعت عيناها من تحت نظّارات سميكة وقالت بابتسامة كشفت عن أسنان طبيعية مكتملة: "إنّها رائعة، أنت تعلمين أن اليوم عيد ميلادي، ولكن من أنت ؟ ومن هذا الرجل ؟ (المصور) " ولما علمت من نكون قالت:
"لا لا يمكن أن أتحدث إليكما الآن، كما إنني لم استعد للتصوير، يجب أن تتركا لي فرصة الذهاب للحلاقة لأعدل شعري.. كان الزميل صالح الحبيبي يكتم ضحكته ولكنه انفجر عندما أردفت :"على الأقل أغير هذه الجلابية "بتايور" على الموضة واضع إكسسوارات وبودرة لوجهي وبصراحة أكثر، أريد أن أوفر جهدي لاستقبال ضيوفي الذين هم في الطريق إلي من روسيا، كذلك أعضاء السفارة الروسية الذين سيحضرون هذا المساء للعشاء معي وتهنئتي بأثمن سنوات عمري.عودا بعد أسبوع ".

نشبت أظافر الصمت في وجهي لثوان كانت كفيلة لزرع "خريف" كئيب في قلبي هذه المرة .
واستدركت قائلة "و لكن ربما أموت قبل أن تعودا... اسمع أنت أيها المصور أنت شاب وسيم أريد صورا جميلة مثلك وسأكون رهن إشارتك، فقط قل كيف أتحرك. أما أنت سأعطيك ساعة زمن فقط للحديث، تفضلي، اسألي"
* هل باستطاعتك إختزال 93 سنة من عمرك في ساعة زمن ؟
- صرخت : "ماذا !؟ هل تنوين الحديث معي عن حياتي كلها، تلزمني أشهر لأحدثك عن حياتي. ولكن هذا رائع كم تمنيت هذا ... الصحافة الروسية والفرنسية اهتمت بجوانب كثيرة ولكنها لم تتطرق إلى أهم محطات حياتي. حسنا اسألي .
* بماذا تشعرين في هذا اليوم الذي يضيف إلى عمرك سنة جديدة؟
- السنون وحدات قياسية لا أفضل التعامل معها كما أن للشيخوخة جمالها وحلاوتها وبهاءها ستدركينها إذا أطال الرب عمرك يا صغيرتي، وأنا أعيش متعة التقدم في السن وما لا أحبه في هذا العمر هو المرض.
لما أنهى المصور التقاط صور للسيدة شيرانسكي وهي واقفة. استوت على كرسي خشبي عتيق في غرفة جلوس متواضعة، تزين جدرانها لوحات للسيد المسيح عليه السلام وبواخر حربية متنوعة ولروسيا القديمة وصور كبيرة (أبيض وأسود) لأفراد عائلتها، وتحتل الجزء الأكبر من الغرفة مكتبة غنية بالعناوين الفرنسية والروسية القديمة مؤكدة امتداد عمرها وعنادها للفناء والجمود تماما كصاحبتها.
قالت مبتسمة: "كيف وجدت منزلي بسهولة؟ على كلّ، كنت ستجدينه بكامل اليسر، حتى وإن لم تعثري على شارع "بيار كوري" وعلى رقم المنزل فأنا الشارع، بل أنا أكبر منه، ومن لا يعرفني في هذه المدينة؟! أنا بنزرت وبنزرت أنا. وإذا شئت يمكنني القول إنني في أهمية وشهرة مدينة بنزرت كلّها، تقاسمت مع هذه المدينة الفرح والحزن والتمزق ، تحمّلت معها فترات مروعة، كنت أرى الناس يموتون تحت قصف المدافع خلال الحرب العالمية الثانية ، كما رأيت بأمّ عيني جنون الحرب وهولها خلال معارك بنزرت عندما طالبت تونس المستقلة بالجلاء العسكري عن هذه المدينة".
سألتها هل تذكرين شيئا عن طفولتك؟
قبل أن ترد رمتني بنظرة عتاب وعيناها تقولان: "سؤالك خبيث بل هو اختبار لذاكرتي، وأنا سأجيبك بما يرضي فضولك".
-"نعم أتذكر الكثير عن طفولتي.. أتذكر جيدا تفاصيل طفولتي ... بل أتذكر ما يكفي لأقول لك أنني من جيل بلا طفولة... أو سميها طفولة المرافئ بما أنني قضيت طفولتي بين المرافئ البحرية ، أنا طفلة تعذبت بصدق وكافحت بصدق.
لقد جاءت أمي إلى الدنيا في 13 فبراير 1890 في مدينة "سانت بيترزبورغ" وفقدت أمّها وهي في سن مبكرة جدّا وأدركت وأنا طفلة ما معنى أن يكون الإنسان يتيم الأم.
كما توفّي جدّي للأم وهو في سن الثانية والأربعين بأزمة قلبية لما كانت والدتي في سن الرابعة عشرة.
ومن بين الصور العائلية مازالت ملامح صورة عالقة بذاكرتي إلى اليوم يظهر فيها طفل وهو في سنته الثانية من العمر على رأسه قبعة من السعف وعيناه تضحكان، ذلك الطفل هو والدي ألكسندر مانستاين المولود في 22 حزيران 1888.
وعلمت وأنا طفلة أن والدي كثيرا ما تألم بسبب الطلاق الذي حصل بين والده ووالدته وهو في سن الرابعة.
اسم بنزرت طرق مسامع عائلتي قبل أن أعرفها، ذات مرة روى والدي أن أربع بوارج حربية تابعة لأسطول البلطيق كان على متنها تلامذة وضباّط صف من بينهم والدي رست في ميناء بنزرت قبل أن تلتحق بميناء القديس في صقلية لإجراء تمارين في الرماية.
ولما بلغ اسم بنزرت مسامع أمي وقتها قالت في لا مبالاة:"ما هذه بنزرت؟! إنه المكان الذي لن أراه أبدا، أما باريس فيمكن زيارتها".

في ربيع 1909 انخرط والدي في العمل بالبحرية الإمبراطورية الروسية وكان مكلّفا بالاتصالات في أسطول بحر قزوين. وبعد سنة من العمل تزوج أبي بأمي في مدينة "باكو" وكان حينها في سن الثانية والعشرين .
مازلت أتذكر سنوات الحرب العالمية الأولى، فخلال طفولتي لم أكن أعي مدى المخاطر التي كانت تحفّ بحياة والدي وهو في البحار المزروعة بالألغام والتي تزيدها خطرا قوة الأسطول الحربي الألماني في ذلك التاريخ.
منحتني أمي وكذلك والدي الكثير من الرعاية إلى حدّ أنهما لم يبعثا بي إلى روضة الأطفال، وبدون أن أغادر المنزل، أعتقد أني تعلّمت الكثير، لقد فتحت لي أمي عالم الكتاب. كانت تقرأ لي قصص الأطفال ومنها "السمكة الذهبية" للكاتب بوشكين و"الحصان الأحدب" للكاتب لارشوف.
لقد ذكرت لي أمي أنه حين توفيت شقيقتي الأكبر مني في سبتمبر 1912 كنت أنا في الشهر الأوّل من العمر. كما ذكرت لي أيضا أنني عندما كنت رضيعة وحتى طفلة في المهد لم أكن أضحك أبدا، ربما كنت حزينة لفراق أختي دون وعي مني...
اليوم وفي هذا الحوار وفي هذا اليوم تحديدا ألخص لك طفولتي التي تسألين عنها بثلاث مدن بحرية للإمبراطورية الروسية هي "روبجنوي" و"ريفال" و"سانت بيترزبورغ" التي أصبحت تسمّى منذ بداية الحرب العالمية الأولى "بيتروغراد" وهذه الأخيرة أعتبرها أمي الأولى الكبيرة لأني كنت أعشق بحرها... ورغم ظروف الحرب، كانت الحياة والدراسة على أحسن ما يرام.
الانقلاب في اتجاه المجهول
بينما كانت السيدة أناستازيا تتحدث بحب وألم عن طفولتها، كنت أحاول من جهتي إعادتها لتلك الفترة التي انفجرت فيها ثورة أكتوبر 1917 في روسيا وكان جليا أنها تمقت تلك الثورة والنظام الشيوعي لأنها غيرت مجرى حياتها.
أحسست برهبة الاستماع ودهشت لهذه الذاكرة اليقظة تماما وهذه القدرة على السرد والعناية بذكر التفاصيل لأزمنة وأمكنة غابرة ، واكتشفت أن ذاكرتي ضئيلة أمام انهمارات ذاكرتها المعتقة بعبق السنين، أنصت لحديثها ولم أقاطعها :
" الحياة في روسيا انشطرت إلى نصفين سنة 1917، نصف يعود إلى فترة ما قبل هذا التاريخ ونصف آخر إلى ما بعد هذا التاريخ. وبالنسبة لي كطفلة، لم يكن التحوّل ملموسا إلا أن إجماعا كان حاصلا على أن الحياة لم تعد كما كانت.
تدمير البحرية
لقد ضربت البحرية بسرعة وبقوة. الحكومة المؤقتة التي شكلتها اللجنة المؤقتة لمجلس الدوما في آذار 1917 كانت عاجزة على الصمود أمام الآلة الجديدة للحكم التي وقع إعدادها منذ فترة طويلة خارج روسيا من طرف الحزب الشيوعي.
كان جهاز الحكم الجديد متشكلا في بداية الثورة مما يسمّى بـ"لجنة النواب العملة" التي تأسست في 27 فبراير 1917 وهذا التاريخ يرمز إلى فترة احتلال مقر الدوما بقوّة السلاح. لقد استغل الحزب البولشفي حالة الحروب وعرف كيف يعدّ لتفتيت الجبهة الداخلية في روسيا ابتداء بالتصفية الجسدية للكوادر المهمة لإحداث الفراغ ثم الاستيلاء على الحكم... هكذا كانت ثورة أكتوبر.
بقينا تقريبا في غمرة الثورة أربع سنوات تخلّلتها محاولات لوقف فوضى ما كان يحدث وكادت في بعض الفترات تلك المحاولات تهزم الفوضى.
ومن اعتقدوا في البداية أن ما كان يحدث هو ثورة سياسية وطنية فهموا بالتدرج أن الأهداف "الماركسية اللينينية" هي شيء آخر يرمي أساسا إلى تدمير روسيا بثقافتها التي تعود إلى آلاف السنين وإلغاء كل ما له علاقة بتقاليد هذه الثقافة.

لقد كان أمام العالم فترة سبعين عاما ليكتشف ما كانت تضمره الشيوعية. إن لينين لم يكن يخفي نفسه فبعد أن وضع قبضته على الدولة، كان متحفزا إلى تدميرها وهذا ما قاله في أحد مؤلفاته الشهيرة وهو كتاب "الدولة والثورة".
تقول وهي تمسك بمؤلفها باللغة الروسية الذي دونت فيه شهادتها وتريني صفحات استشهدت بها:
"التدمير المنظم للقوة العسكرية الروسية بدأ ينشر البيان الشهير المعروف بالأمر عدد 1 والذي وقع طبعه في الليلة الفاصلة بين يوم 1 و2 آذار بأمر من "النواب السوفيت العملة والجنود.
لقد أرسل بهذا الأمر إلى الجبهة. وتشير بعض الدلائل إلى أن وصوله إلى صفوف الجيش الروسي تم بالتواطؤ مع القوات الألمانية. الأمر كان عبارة عن دعوة إلى العصيان صلب الجيش نتيجة تجريد العاملين فيه من رتبهم وهذه الخطة الماكرة ألغت الانضباط العسكري دفعة واحدة وهي النتيجة التي صفق لها "جوزيف غولندنبرغ" أحد أقوى "النواب العملة والجنود السوفيت" وأعلنها صراحة بالقول: "يوم صنعنا الثورة وضعنا في الاعتبار أننا إذا لم نقض على الجيش الموجود فإنه هو الذي سيسحق الثورة، لقد كان أمامنا اختياران: إمّا الجيش وإمّا الثورة واخترنا هذه الأخيرة وأستطيع القول أننا استعملنا بعبقرية كل الوسائل الضرورية لذلك".
ومن بين "الوسائل الضرورية" التي استعملتها الثورة في مرحلة أولى المجازر الجماعية للضباط الروس.
آذار الحزين
امتدّت الاضطرابات والاغتيالات إلى حيّنا في مدينة "ريفال" ومن الصعب على طفلة في سنّي وضع جدول دقيق لتسلسل الأحداث وفهم مجراها السياسي وأنا في الخامسة من العمر لم أع بالضبط ما كان يجري إلا في مرحلة لاحقة .
كم كانت بداية شهر آذار من سنة 1917 حزينة! كان الليل يأتينا بسرعة وكانت الرياح عاتية وبيتنا صامتا.
ذات مساء حزين جاءنا صديق دراسة لوالدي، تسلّقت الكرسي وجلست إلى جانبه، إنه ألكسندر كارلوفيتش لانغي.
وعلى غير عادته كان يخفي أنفه بواقي رقبة سميك مصنوع من الصوف، نزل علينا صمته في ذلك المساء مثل الرصاص رغم معرفتنا بمرحه وخفة روحه.
بدأ حديثه بإنباء والدي باغتيال أكثر من مائتي ضابط روسي...وهذه كانت الرسالة الأولى إلى جيش البحرية الذي وقع إهماله من قبل الحكومة الروسية العاجزة وإن والدي هو الآخر مهدّد في حياته.
بعد أشهر قليلة حدث مؤشّر آخر خطير ينبئ بعزم الثورة على تدمير جيش البحرية من خلال الأمر الذي وقعه "لينين" و"تروتسكي" والقاضي بإغراق البوارج الموجودة في البحر الأسود وفي نوفوروسيك بحجة الخطر الذي كان يداهمها من طرف الألمان، وفي حقيقة الأمر فإن هذا الإدّعاء كان مجرد ذريعة لتدمير جيش البحرية، ولمّا رفض قائد فيلق بحرية البلطيق العقيد "ستشنسكي" أمرا من هذا القبيل وقع إعدامه بالرصاص.
وبأمر من "تروتسكي"، كنا نشهد حلّ المدارس العسكرية ومنها مدرسة البحرية ومدرسة مهندسي البحرية... وكل ما له صلة بجيش البحرية.

في هذا المناخ الفوضوي وفي غمرة الحرب كان مجرّد مبدأ القيام بالواجب والولاء للوطن يشكل خطرا على أصحابه.
بالنسبة لوالدي وبالقياس لمقته للصعوبات المادية واحتقاره للوصوليين ووفائه لقسم الولاء الذي أدّاه لفائدة الوطن، كان المصير الذي ينتظره قد تحدّد وكل حلّ آخر بالنسبة إليه كان غير مقبول.
لمّا وقع طرد ضباط البحرية ومن بينهم والدي، وإثر تسليم البوارج للجان الثورية جاءنا بعض الجنود الذين كانوا يعملون تحت إمرة والدي وحذرونا بالقول:"لا ينبغي أن يبقى القائد هذه الليلة في المنزل لأن الآخرين سوف يأتون لأخذه".
اختفى والدي من ساحة جيش البحرية، ونظرا لشهامته وسمعته ونظافة سلوكه كانت ترد علينا بعض المساعدات المادية في تلك الظروف الحرجة التي مرّ بها أبي تحت اسم "حصّة القائد" بدون أن تفي بالحاجة.
ولكسب القوت، تحوّل والدي ومعه أمي لامتهان صناعة الأحذية.
كان والدي يقص جلد الأحذية وأمي تخيطه، كنت أراهما يعملان في هذه الحرفة الجديدة في النهار كما في المساء، رأيت النوم يأخذ أمي وهي جالسة على الكرسي في انتظار قص جلد الحذاء من طرف والدي, ولئن توفقا إلى توفير الأحذية للناس فإنهما جهلا مكافأة جهودهما إذا كانا يبيعان الأحذية دون ثمنها الحقيقي ودون الجهد المبذول لأنهما لم يتعودا على المساومة، في إحدى المناسبات سمعت والدي يقول لأحد الزبائن :"خذ الحذاء بدون مقابل وانصرف، إني أهبه لك".
الهروب من بيتروغراد
إنّ ما احتفظ به بعيدا في الذاكرة لثورة أكتوبر هو ذلك الصخب الكبير للشاحنات وهي تجوب طرقات "بيتروغراد" والجنود شاهرين أسلحتهم في الطرقات التي كانت شبه خالية، كنّا نركض في إحدى الممرات في اتجاه محطة الأرتال وأمي ماسكة بإحدى يديها أغراضنا وبالأخرى يدي وكنت بدوري أجرّ "بوسيا" إلاّ أنّ رجليها الصغيرتين كانتا غير قادرتين على مواكبة نسق الهرولة.

رذاذ المطر كان يبلل الطريق بما جعلني من وقت لآخر أفقد التوازن.
كانت الجادة المخصصة للراجلين على الطريق الطويلة تبدو أمامي في شكل مثلث، ضلعه يبدأ أمامي وزاويته تعانق الأفق البعيد للمدينة الخالية، كان علينا ألا نتوقّف أثناء الهروب... أدركنا آخر قطار وكان زجاج نوافذه مهشما.
في ذلك اليوم غادرنا "بيتروغراد" أو "سانت بيترزبورغ" إلى الأبد.
لم تر أمي منذ ذلك اليوم هذه المدينة التي طالما أحبتها، و ظلت تتحدّث عنها طوال بقية عمرها، أما أنا فقد تحدّثت عنها لأبنائي وبخاصة لأحفادي.
خلال فبراير سنة 1918، احتلت القوات الألمانية مدينة "ريفال" التي فررنا إليها، كان والدي لا يعرف من اللغة الألمانية غير كلمتين "Geten Tag" و"Auf Wiedershen" في إشارة منه للألمان لديانته المسيحية الأرثوذكسية.
وفي نفس السنة أيضا حلت كارثة أخرى بأبي وأمي لدى سماعهما بالمجزرة التي فتكت بالعائلة الإمبراطورية الروسية وكانت تلك هي المرة الأولى التي رأيت فيها والدتي تبكي بحرقة وتردّد:"المساكين المساكين". لقد شاهدت أمي أكثر من مرة الأطفال الصغار للعائلة الإمبراطورية وهم على متن عربة مكشوفة تجرها الخيول في "سانت بيترزبورغ" وكانوا يبتسمون ببراءة للمارة وقد تكون أمي تبكي تلك الابتسامة.
منذ تلك المجزرة، كان يبدو وكأن روسيا لا تملك ماضيا بل لم يعد هناك شيء اسمه روسيا... كما ان سبب انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي له جذور عميقة تعود إلى سنة 1917.
منذ شهر ديسمبر من سنة 1917 وإثر هدنة الحرب العالمية الأولى شكل "لينين" منظمة لمحاكمة ما سمي بـ"أعداء الشعب" وإعدامهم بسرعة فظهرت معسكرات الاعتقال أودع فيها كل من كانوا يشكلون خطرا على النظام الجديد بمن فيهم الطبقة العليا من الشعب ومالكو الأراضي.
الإعدامات كانت تنفّذ بالتسلسل وبدون توقف. ولا أحد يعلم إلى حد هذا اليوم عدد الذين تم الإجهاز عليهم علما بأن عدد سكان الإمبراطورية الروسية سنة 1918 قدّر بنحو 130 مليون نسمة منهم 110 ملايين من سكان الريف.
بعد عام من هذا التاريخ تغيّر كل شيء في الإمبراطورية بما في ذلك الألوان فالجيش الأبيض أصبح جيشا أحمر. رفض والدي والآلاف من أمثاله الانخراط فيه بعد أن تسربت إليه الفوضى وتلاه الانهيار لكامل الإمبراطورية وإدارتها من أسفل السلم إلى أعلاه إضافة لعمليات القضاء على ضباط البحرية في البحر الأسود وإغراق بوارجهم سواء من طرف حكومة موسكو الثورية الجديدة أو من طرف الألمان وكذلك من قبل حلفائنا الفرنسيين والبريطانيين.
في شهر أكتوبر من سنة 1920، تقرّر الهروب من الجحيم، واستطاع ما تبقّى من سفن البحرية من نقل الفارين.
غادرت روسيا 120 سفينة كان على متنا 150 ألفا لم يحملوا معهم شيئا من ممتلكاتهم إلا أنّهم في الواقع حملوا كل شيء في ذاكرتهم.
كنت وأسرتي على متن إحدى هذه السفن، بقيت على ظهرها نحو أربعة أعوام تتقاذفني أمواج البحر وترفضني بعض الموانئ، المخاطر والآلام التي عشناها في البحر تتجاوز كل وصف.
تفرّقت بنا السبل والسفن في موانئ البحار واختارت 23 سفينة تحمل ستة آلاف شخص المرور باسطنبول ثم الاتجاه إلى بنزرت، كنا جميعا بدون جوازات سفر والأهم من ذلك بدون هوية. في كل البحار والموانئ كنا مجرد لاجئين.

أناستازيا الروسية مع صوفية الهمامي الخريف الماضي
أناستازيا الروسية مع صوفية الهمامي الخريف الماضي
الذاكرة المتحركة لمدينة بنزرت
قبل أن تواصل السيدة أناستازيا شيرانسكي حديثها، توضح أن مأساة الهجرة التي عاشتها ورافقتها على امتداد عقود من الزمن منذ كانت طفلة، ظلت تلملم أحداثها وجزئياتها من أمها وأبيها والمحيطين بها وما لم تفقه وهي طفلة ألمت به خلال مراحل عمرها اللاحقة.
وهي تتحدث، كانت تغير النظارات وإن وهن نظرها فلم تهن ذاكرتها ، حول إرسائها الأخير مع آلاف اللاجئين في ميناء بنزرت وعن علاقتها بالبحر تسرد كيف أصبحت وحيدة في قبضة الوحشة وكيف تحول البحر إلى حياة بأكملها :
"تحركت بنا السفينة من تركيا وقيل لنا أن الوجهة هي ميناء بنزرت في تونس التي تحتلها فرنسا في ذلك التاريخ.
كنا في عز الشتاء والمسافة البحرية الفاصلة بين اسطنبول وبنزرت حسبتها أطول رحلة وأخطرها وأكثرها بؤسا. كنا نأكل القليل ونتعرّض إلى الكثير من البرد والمرض".
فجأة أشرق وجه السيدة أناستازيا وأمسكت وجهها بيديها النحيلتين المخضرتين بعروق خشنة بارزة وقالت بغبطة مشوبة بغرابة :"لن أنسى ما حييت ذلك الصباح الباكر ليوم 23 ديسمبر 1920 لما ولجت بنا السفينة طرف ميناء مدينة بنزرت الذي كان جزءا منه مازال متضرّرا من جراء القصف الألماني أثناء الحرب العالمية الأولى.
آه يومها أحسست بحنان الطبيعة لقد كان البحر هادئا والشمس كانت متدفقة الأشعة و الهدوء يحف بالميناء، كان يوما عذبا لا ينسى.
كنا جميعنا على ظهر السفينة البحرية وكنا نودّ النزول إلى اليابسة إلاّ أن جيش البحر الفرنسي حال دون ذلك.
كانت بقية السفن الحاملة للاجئين الروسيين تصل تباعا إلى ميناء بنزرت ولما وصلت جميعها شكلت أسطولا عسكريا رهيبا أثار ذهول البحرية الفرنسية.
ومنذ الوصول وقع تجريد جيش البحرية الروس من السلاح وتم وضع الضباط والجنود تحت المراقبة ومن بينهم والدي.
لقد احتفلنا ونحن على ظهر السفن في ميناء بنزرت بأعياد المسيح إلى أن جاءت سنة جديدة 1921".
الوطن سفينة حربية
وعن الفترة التي قضتها السيدة أناستازيا في الميناء على ظهر السفينة تقول:
"بقدر ما كان يوم 23 ديسمبر 1920 يبعد عن الذاكرة بقدر ما ظلّ يثير في نفسي تساؤلات لا أجد لها جوابا لأنك لما تكونين معزولة في مكان داخل بلد لا تعرفينه ولا يعرف عنك شيئا تبدو العزلة موجعة وعبثية ويبدو الإنسان وكذلك الحياة كلها تافهة ولا معنى لها. الإنسان حينها يكون عبارة عن صفر.
لقد كانت الغربة تجلد بسياطها الذاكرة، وبالتأكيد يتذكر الإنسان البيت الذي نشأ فيه والأهل والأقرباء والأصدقاء...
الجميع فقدناهم وتضاءل الأمل في رؤيتهم مرة أخرى بل إن هذا الأمل أصبح مستحيلا... حتى الوطن - روسيا- تقلص حجمه ولم يعد ممثلا إلا في تلك السفينة التي نحن على ظهرها، الوطن يبدأ و ينتهي على ظهر السفينة الحربية.
فترة العيش على البحركات قاسية جدّا بالنسبة للاجئين يعتبرون صفوة المجتمع الروسي الذين كان ينظر إليهم على أنهم من الطبقة الأرستقراطية والبورجوازية لأن البحرية الروسية كانت تنتقي الأفضل من التلاميذ والجنود والضباط والأطباء والمهندسين والأساتذة لذلك لم نكن لاجئين عاديين وعلمت فيما بعد أن السلطات الفرنسية التي كانت تحتل تونس تعرف حقيقة أصول أسطول البحرية الروسي لكن الإجراءات الإدارية المعقدة جعلتنا نبقى على ظهر السفن في ميناء بنزرت حوالي أربعة أعوام عرفت خلالها هذه العينة من المجتمع الروسي الصغير كيف تتدبّر شؤونها من المؤونة القليلة التي كانت تمدنا بها السلطات الفرنسية, ووقع تنظيم حياتنا في تلك المساحة الضيقة حيث تم تهيئة فضاءات داخل السفن لتعليم الأطفال وكنت ضمنهم معتمدة على الرصيد المعرفي الذي زوّدني به والدي ومحيطي في روسيا.
وأتذكّر أننا كنا نتلقى الدروس على يد أساتذة أكفاء ومازالت أحنّ إلى دروس أستاذ تاريخ التربية الدينية التي كان يقدمها الأب نيكولا بوغومولوف الذي كان شابا وسيما يتّقد حيوية تلف وجهه لحية كثيفة (السيدة أناستازيا مسيحية أرثوذكسية محافظة على ممارسة شعائرها) أما دروس اللغة الفرنسية فقد اقتنع الجميع بأن القيام بها على أفضل وجه لا يمكن أن يتمّ إلا من طرف فرنسي وهو ما لم يكن متوفرا لدينا... وفي ظرف سنة واحدة حصلنا على مستوى تعليمي مواز لمن هم في سننا في روسيا لأن المعلمين والأساتذة كانوا متفرغين لنا كامل الوقت. تعليمنا كان مكتملا وفيه دروس الموسيقى والرقص والرياضة...

ومازلت أتذكّر المكتبة التي كانت على ظهر السفينة وكانت تضم أمهات الكتب وكأني أرها الآن أمامي وأستحضر العناوين التي نهل منها أجيال من الروسيين وأتذكّر من بينها جيّدا مؤلفات لجول فارن ومارك توين...
أطفال اليوم لهم إمكانيات رهيبة لفهم ما يجري في العالم أما نحن في بداية العشرينات من القرن الماضي كنا في نقطة ثابتة على ظهر سفينة معلقين بين الماء والسماء ولم يكن أمامنا غير الكتب ولا نملك غير خيال الأطفال لتصوّر ما يجري من حولنا وفي العالم إلا أن الوجه الآخر للحقيقة يتمثّل في معرفتنا للجغرافيا وفي رؤيتنا ما لم ولن يراه غيرنا. لقد رأينا عالما بأكمله، وقطعنا البحار والمحيطات، رأينا بعيوننا عالما لن يراه غيرنا واخترقت آذاننا أسماء بلدان ومدن وموانئ قد لا يسمع بها أطفال اليوم... زنجبار وتومبوكتو وخليج النار في تريستان داكونها وغيرها ليست غريبة عن أذهاننا وآذاننا".
الحياة على الأرض
ولمّا سألت السيدة أناستازيا عن بقية العمر في بنزرت، كانت الإجابة غير منظمة ولها أعذارها في ذلك فكيف يمكن لإنسان أن يرتب الحديث وينتقي الأحداث من فترة تمسح خمسة وثمانين عاما كاملة أي من سنة 1920 إلى سنة 2005؟!
ردت السيدة أناستازيا على مكالمة هاتفية فهمت منها أن ضيوفها الروس وصلوا مطار تونس قرطاج واستقلوا النقل الجماعي وأدركوا بنزرت. شرحت لهم بدقة متناهية طريقة الوصول إلى منزلها، ولما طال شرحها، أنهت المكالمة بالقول:" قولوا لأوّل من يعترضكم في الطريق من أهل بنزرت أين منزل أناستازيا؟ عندها تكونون عندي".
حمدت الله انها نسيت الوقت الذي تجاوز الثلاث ساعات. بعد برهة سمعت خطى كانت بالتأكيد للضيوف الذين أخذهم سارج ابن السيدة أناستازيا إلى إحدى الغرف المجاورة الأخرى لقاعة الاستقبال وظلوا هناك في الانتظار وعادت السيدة أناستازيا للحديث وهي في غاية الانسجام :
"بعد مغادرتنا للسفن ونزولنا على أرض بنزرت كنا نحمل صفة اللاجئين، فبين سنة 1924 وسنة 1925 تفرقنا وراح كل يبحث عن حياة جديدة في البلاد التونسية ولم يبق في بنزرت وقتها غير 150 شخصا .
سنة 1992 كان هناك إنسان روسي واحد في بنزرت، إنه أنا أناستازيا شيرانسكي.
من أسوأ ما احتفظ به في الذاكرة في بداية وصولنا إلى بنزرت تلك الرسالة (تخرج الرسالة من ملف كتب عليه "العائلة") التي وردت علينا من جدّتي التي لجأت هي بدورها مع جيش البر إلى صربيا، فبوسائلها الخاصة علمت وأشعرتنا أن منزلنا تحوّل إلى ملجأ للأيتام وقبلنا الأمر الواقع وتكيفنا مع هذا الخبر المفزع بمواساة أنفسنا والقول إنها رحمة من الرب لمّا يتحوّل منزلنا لاحتضان أيتام وليس لشيء آخر.لكن ما أفزعنا أكثر في الرسالة هو زوال الأشجار المثمرة من المنزل وأحسسنا بآلام جدّتي التي اشتكت لنا في الرسالة من أمر آخر هزّ كيانها عندما بلغها أن اللصوص والمجرمين فتحوا قبور بعض أفراد من عائلتنا بحثا عما أسموه بالكنوز...
غربة الغربة
إن المصيبة عندما تبلغ ذروة التعاظم لا يمكنها أن تؤثر في الإنسان، إذ بعد العيش سنوات على ظهر السفن بلغنا أنه ينبغي علينا النزول إلى اليابسة وتمّ حصرنا على رقعة من الأرض فأحسسنا بغربة أكبر لأننا كنا نعتبر أن السفن هي الوطن روسيا وهي آخر ما تبقّى لنا منه في وقت علمنا فيه أيضا أنه لم يعد هناك بلد اسمه روسيا، لقد زال من الوجود ومن الخارطة وحل محله اسم جديد هو اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية ذلك المشروع المتكوّن من مجموعة دول قال عنه "لينين" أنه "المستقبل الزاهر" الذي سيمتدّ إلى كل الدنيا، ومشروع لينين هو الذي دمّر وطننا روسيا وشرّدنا وجعلني أنا كروسية وكذلك الآلاف أمثالي تتقاذفني أمواج البحار والمحيطات وأعيش حياتي لاجئة بدون هوية ومجرّد رقم غير مكتوب على جواز سفر بل على ورقة عادية تحتفظ بها السلطات الفرنسية في بلد هو الآخر مستعمر ومغلوب على أمره لا يفهم قضيتي وأعجز أنا عن إبلاغها إلى أهله مادمت محاصرة ومحتجزة على ظهر باخرة. الفجيعة ظلت تسكنني رغم محاولات الهروب منها... والدي الذي كان من أعيان المجتمع، وجد نفسه وهو في أوج الشباب والعطاء مرغما على إراقة ماء الوجه ليطلب من السلطات الفرنسية في مدينة بنزرت إدراج اسمه ضمن قائمة طالبي الشغل في أية مهنة باعتباره أبا لأربع بنات لم يجد لهن طعاما بعد أن تخلّص مرغما من زي جيش البحرية المرصّع بالنياشين والأوسمة...
في بداية عمري الطويل هذا، كيف يمكنني أن أنسى ونحن في بنزرت وفاة شقيقتي الصغيرة "ماشا" لمّا سحقتها الحمى وعمرها عام، لقد كنت إلى جانبها ورأيت كيف توقفت على التنفس وتوقف قلبها ورأيت كيف تنطفئ العين الحالمة... رأيت دموع والدي تبلل وجهها الصغير المحمر وجثتها الطرية الصغيرة الممدة، كانت هناك قطع من الخشب على الأرض إلى جانب فراشها ومنها صنع لها والدي تابوتا".
الدراسة في ألمانيا

ذاكرة مزدحمة بذكريات كثيفة بحجم الغربة وبحجم الوطن الكبير حيرت وأربكت تناسل أسئلتي ، عدت إلى الوراء قليلا وسألت السيدة شيرانسكي عن فترة دراستها في بنزرت ، فردت علي بصوت خافت وكأنها ستقول سرا :
"سأروي لك بعض الأحداث المثيرة ، كنت أقرأ في المدرسة الفرنسية ببنزرت بنهم إلى مرحلة الباكالوريا وكان عليّ إجراء الامتحان في معهد "كارنو" بالعاصمة تونس للحصول على شهادة الباكالوريا.
لقد جاء الأساتذة الفرنسيون لإجراء الاختبار من الجزائر.
اخترت شعبة العلوم واللغات. اليوم الأوّل من الامتحان بدأ بمادة الحسابيات وعرفت أن امتحاني فيها كان رديئا وخرجت من الفصل محطّمة وقلت في نفسي لا فائدة من مواصلة الامتحان لو لم يقنعني أحد أصدقائي بالعدول عن هذه الفكرة.
في اليوم التالي وفّقت إلى أبعد الحدود في اختبار الفيزياء وكذلك في اختبار الفرنسية وأتذكّر أن الموضوع كان حول "موليير" وهكذا أجريت بقية كل المواد على أحسن ما يرام بما في ذلك الاختبار الشفاهي واخترت فيه الحديث عن أدب "بوشكين" ومن فرط ما كنت ألمّ بهذا الأديب الروسي، طلب منّي الأستاذ الممتحن التوقف عن الكلام وقال لي:"لك عشرين على عشرين".
لقد كان على الفائزين في الباكالوريا الفرنسية إما الدراسة في فرنسا وإما في إيطاليا، لكن كيف السبيل إليهما وأنا لا أملك جواز سفر بل لا يمكنني الحصول عليه لأنني مصنفة "لاجئة" إلاّ أنني قمت بالمستحيل للحصول على وثيقة تمكنني من السفر خارج البلاد التونسية وتدخّل لي بعض الأصدقاء الفرنسيين والتونسيين لدى المراقب المدني الفرنسي في تونس وسلموني ورقة خضراء فيها اسمي وصورتي وعليها مكتوب بخط اليد "جواز سفر" تمكّنت بفضلها من السفر إلى ألمانيا حيث أقمت لدى عائلة أرستقراطية تعرفت عليها بالمراسلة.
لا شيء في ألمانيا سنة 1934 كان يوحي بأن هناك حربا قادمة سيشنّها هتلر على العالم.
لم أتحمّل الحياة في ألمانيا فغادرتها إلى فرنسا وأقمت لدى أقاربي فترة قصيرة ثم عدت إلى بنزرت وتزوّجت سنة 1935 وأنجبت أطفالي الثلاثة في بنزرت التي تحمّلت معي وتحمّلت معها كوارث الحرب العالمية الثانية".

بنزرت المدمرة
تضيف السيدة شيرانسكي وهي تستحضر علامات سجلت حضورها في التاريخ :
"في عام 1942 وقع إخلاء هذه المدينة لما دخلتها قوات المحور ووقع تدميرها بنسبة 80% أثناء القصف المتبادل بين قوات المحور وقوات الحلفاء وفي هذه المدينة رأيت حرب الشوارع في صيف سنة 1961 بين القوات الفرنسية والتونسيين الذين طالبوا بالجلاء العسكري الفرنسي وفي 15 أكتوبر 1963 رأيت جيش البحرية الفرنسي يغادر ميناء بنزرت إلى الأبد ويختفي بين الأمواج كما اختفى جيش البحرية الروسي من قبله... وها أنا باقية في بنزرت.
منذ 1924 إلى حدّ الآن حصلت لدي قناعة مفادها أن الصعاب لا يمكن قهرها إلا بالعمل. لقد كنت أعمل وأكدّ خمس مرات أكثر من الآخرين ومن سوء الطالع أن المقابل الذي كنت أجنيه كان أقلّ مما يحصل عليه الآخرون.
زواجي كان عاديا من حرفي روسي جاء هو الآخر لاجئا في نفس الفترة التي وصلنا فيها جميعا إلى بنزرت كنت قد تعرفت عليه في العاصمة تونس.
درّست في معهد بنزرت الحسابيات وتعرفني أجيال من التونسيين وأعتز بأن أعدادا كبيرة من تلامذتي احتلوا مناصب عليا في دولة الاستقلال التونسية ونظموا لي حفلات التكريم طوال العشريات الماضية وإلى الآن أحظى باحترام كل التونسيين. أما أجيال بنزرت فإنهم يعتبرونني "بلدية" أي غير نازحة أو مهاجرة أو لاجئة فكبيرهم وصغيرهم يجزم أني ابنة وعنوان بنزرت لكنهم لم يعلموا أنني تمسكت بالبقاء بصفة لاجئة ولا أحمل غير بطاقة إقامة يقع تجديدها كل سنتين إلى أن عادت لي هويتي الروسية سنة 1997 مع تشبثي بديانتي المسيحية وعملي الدائم على خدمة الكنيسة. هل تعلمين أن الوحيدة التي ساعدتني على ترميم الكنيسة الأرثوذكسية في بنزرت وجمعت الأموال من الجالية المسيحية بتونس هي السيدة سهي عرفات زوجة الرئيس الفلسطيني الراحل، مسكين ذلك الرجل ، لقد مات بسرعة مذهلة...".
لقد كتبت عنّي إحدى الصحفيات الروسيات "إن جسمها في بنزرت وروحها ترفرف على روسيا".
العودة إلى روسيا
"عام 1988 زارني في بنزرت فريق من الكتاب والمؤرخين الروس للتعرّف على حقيقة الثورة في روسيا عام 1917 وعلى هجرة جيش البحرية وصادف وقتها أن علم المفوّض السامي للاجئين بجنيف برغبة الفريق الروسي، فقدّم من هناك وطرح عليّ سؤالا لم أكن أحلم به :"هل تريدين أن أساعدك على زيارة روسيا؟".
جرت اتصالات بين المفوضية السامية للاجئين والسلطات التونسية وسلطات الاتحاد السوفيتي ووقع تذليل العقبات الإدارية لهذه الزيارة التي دخلت في إطار الأسباب الإنسانية ومهدت وسائل الإعلام في الاتحاد السوفيتي وفي روسيا تحديدا لهذه الزيارة انطلاقا من غرابة وضعي وتدفّقت عليّ الرسائل من كل أرجاء روسيا بعد أن كانت الدعاية السوفيتية تصف اللاجئين بـ"الخونة للوطن".
لقد كان السكان الروس يخافون من مجرّد علم السلطات بأن لهم لاجئا في الخارج... طال انتظار تحقيق الزيارة، وحتى إن كنت أملك جواز سفر، كان اسمي مدرجا ضمن الممنوعين من الدخول إلى الاتحاد السوفيتي...
إثر انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة، كنت في مطار تونس قرطاج بعد أن تحدّد السفر يوم 4 جويلية 1990 برفقة القنصل الروسي وممثل عن المفوضية السامية للاجئين.
ركبت الدرجة الأولى ونزلت الأولى من الطائرة وبمجرّد أن لمح شرطي المطار جواز سفري، أجرى اتصالا هاتفيا سريعا أعلم زملاءه في الأمن بأن " شخصية مهمة" أمامه.
قدم لاستقبالي من كل أرجاء روسيا كل ما تبقى من عائلتي. وفي اليوم التالي وجدت أن السلطات الروسية أعدت لي جدول زيارة مكثفا جدا بالنشاطات وباللقاءات وأحسست بأنني قادرة على إنجازه.
انتابني شعور بأن كل من كانوا من حولي ينظرون بعيونهم وعقولهم إلى الحاضر والمستقبل بينما كان عقلي أنا متسمرا ومشدودا إلى ماض يعود إلى 85 عاما.
كانت الصورة مقلوبة ومعكوسة أمامي في كل الأماكن الروسية، كل مدينة زرتها كنت أنظر إليها من زاوية مختلفة خاصة عندما زرت مدينة بيتروغراد أو بيترسبورغ والتي تحمل الآن اسم لينينغراد، كنت أحفر بذاكرتي كل أطراف هذه المدينة لأنها موطن طفولتي.
لن أنسى يوم زيارتي إلى مقر قيادة البحرية الروسية وأنا محاطة بكبار الضباط وهم يحملون الزى الرسمي، في المدرسة البحرية حيث تعلّم وتخرّج والدي، ظلت الأماكن وفيه لما تحمله ذاكرتي، ولما نظم السفير التونسي في موسكو السيد أحمد ونيس مأدبة عشاء على شرفي في مقر إقامته الفاخر، قلت في نفسي مسكين هذا الرجل إنه ينام بين أشباح الموتى التي تزين جدران بيته فلا هو كان يعلم ولا أحد أخبره إن مقر الإقامة هذا كان يحتله في بداية ثورة 1917 طاغية اسمه "بيريا" أزهق في طابقه السفلي أرواحا لا تحصى ولا تعدّ.
كل شيء في روسيا حتى وإن بدا فاخرا وجميلا يخفي فضائح ومآسي.
ولهذا أقول أني كنت أعيش وأرى الأشياء من زاويتها الأخرى... كل الأحاديث الصحفية والتلفزيونية التي أجرتها معي وسائل الإعلام في روسيا، أعادت للروسيين قراءة جديدة ومفهوما صحيحا للتاريخ.
ومن المفارقات العجيبة أن لينين كان يؤكد بالحرف الواحد:"التاريخ؟... الشعب ليس في حاجة إلى تاريخ".
تذكروا من كانوا هنا
نظرت السيدة أناستازيا إلى ساعتها وقالت بصوت متهالك:" الضيوف في انتظاري اعذريني يا صغيرتي "
رافقتني إلى الباب وودّعتني قائلة:"لا تتردّدي في الزيارة وزوريني إذا شئت مرة أخرى لأحدّثك أكثر عن بنزرت وشوارعها وناسها وعن الفرنسيين واليهود والايطاليين"
أهدتني أحد مؤلفاتها بالفرنسية فقد كتبت كثيرا بهذه اللغة و الروسية كذلك.
في الصفحة الأولى من مؤلفها كتبت هذه العبارة لجوكوفسكي:"لا تقل بحزن أنهم راحوا إلى الأبد بل قل بوفاء أنهم كانوا هنا".
تركتها في الداخل وما إن وضعت رجلي على عتبة الباب الخارجي حتى تسمرت مكاني عندما صرخت في ظهري قائلة: "اسمعي... أنا تحدثت بالفرنسية وأنت ستكتبين بالعربية . كوني أمينة"
سأكون أمينة، قلت ولكنك لم تقولي لي سر تشبثك ببنزرت ؟
- "حبيتها"
* تتكلمين العربية ؟!
- "مالا لا" (ولم لا)
وأنا في طريق العودة وجدت ما يثير التناقض الذي أشرت إليه في البداية.
لقد تغيّر المناخ بصورة مذهلة لقد حل الشتاء مكان الخريف سريعا إذ تلبّدت السماء بعد القيظ بالغيوم وكانت الريح عاتية والمطر ينزل رذاذا مما حجب الرؤية قبل غروب الشمس و جعل السيارات في الطريق السريعة تستعمل الإضاءة.
ولما شارفت على العاصمة وعلى بعد مئات الأمتار من منتزه النحلي، واجهتني شاحنة مع عربتها المجرورة نصف مقلوبة وحرس المرور من حولها يأمر بعصبية الفضوليين من أصحاب السيارات المارة في الاتجاهين إخلاء الطريق أمام سيارة الإسعاف لنقل المصابين الذين قد يكونون أمواتا.
وغير بعيد عن مكان الحادث اصطدم بصري بهضاب منتزه النحلي أين قضي عدد كبير من المسافرين في حادث الطائرة المصرية المفجع.
اختلطت الأشياء في ذهني وبدت لي الحوادث والكوارث العارضة ذات مدلول ضئيل أمام ما اعترض امرأة لا حول لها ولا قوة من أهوال بدأت تلاحقها في روسيا وظلت تتعقّبها إلى بنزرت وتتعقب حروفي هذه...





صوفية الهمامي
الخميس 24 ديسمبر 2009