نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

خديعة الرحمة

03/07/2025 - هناء محمد درويش

التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه

24/06/2025 - عبير داغر إسبر

انهيار إمبراطورية إيران

17/06/2025 - براءة الحمدو

حزب حاكم جديد في سورية

08/06/2025 - بشير البكر


ماذا يفعل الناس وبمن يتصلون لدفن أحدهم.





أنا وأخويّ، ثلاثة رجال في نهايات الثلاثينات وبداية الأربعينات يجلسون في سيارة بجراج المستشفى بعيون دامعة يكتشفون أنهم لا يعرفون ولم يتولوا من قبل أمر دفن أحد.
أباهم كان دائما يتولي كل شيء ويوزع عليهم مهاما أخرى: كن مع أمك، اصحب عمتك إلى بيتها، انتظر جارنا على أول الطريق عند مدخل المقابر.

لأكثر من ثلاثة سنوات، ربما، أفكر أني يجب أن أسأل أبي عن ترتيبات مقابر العائلة. ثم أقول لنفسي وأنا أنظر إليه أو أسمع صوته القوي: ليس الآن.

وجد أخي رقما لأحد عمال مدافن العائلة، اتصلت به وعرفته بنفسي فسألني لماذا لم يتصل أبي هذه المرة ولماذا أتصل أنا.




اتصلت بالشيخ عبد المحسن، قريبنا المقرب من أبي، الذي كنت أظن أنه ابن خالته، عرفت بالأمس إنه ابن بنت عمة جدتي. يحتفظ ابي بعلاقات وطيدة عبر الروابط الممتدة التي يصعب عليّ تذكرها، الشيخ عبد المحسن يعمل في جمعية خيرية إسلامية وسيعرف بالتأكيد بمن نتصل من أجل الغسل والتكفين وعربة نقل الموتى.

ظل الشيخ يبكي لقرابة ربع ساعة وأنا أنتظره على الخط أحاول ألا أشاركه البكاء، ثم تماسك وقال لي: أبوك تولى ترتيب كل شيء.

قبل أقل من شهر اتصل أبي بالشيخ عبد المحسن واشترك للعائلة في خدمات الجمعية التي ستتولى كل شيء، أرسل لي الشيخ صورة وصل الاشتراك الجديد بتاريخ الثامن والعشرين من ديسمبر اليوم السابق لدخوله المفاجيء للمستشفى. ذلك اليوم كنت معه على التليفون ولم يكن قد توقف عن محاولته ترتيب حياتي: هذه الفترة من الأفضل أن تكون معنا هنا في البيت، سيبك من شقتك البعيدة دي وارجع لغرفة 304، واختبيء زي ما انت عايز يا ابن الكلب.

الشهر الماضي كانت آخر رسالة أرسلها صديق له عن طريقي، يخبره أنه تعرف عليه من كتابتي وأنه يحبه ويحترمه ويقدره رغم أنه لم يره، ورد أبي عليه برسالة طويلة يشكره ويواسيه أن جيلنا فعل أشياء جميلة وعظيمة وأمامه الكثير ليفعله رغم الأوقات السيئة، لكن علينا أن نكون حذرين وأكثر هدوءا.

في غرفة الطواريء في المستشفى، كان صوته لا يزال يخرج قويا من تحت الفوهة البلاستيكية التي تغطي فمه وأنفه وتساعده على التنفس، كان يسألني عن أحوال عملي وزملائي ويعلق على ما كتبوه بالأمس على فيسبوك، ويقول لي كان ذلك موفقا وذاك غير موفق. وزع علينا أوامره: محمود ومصطفى معه في المستشفى وأنا يجب أن أذهب لأكون مع أمي. يخبر طبيب القلب أنه طوال سبعين عاما لم يخضع لأي عملية جراحية من أي نوع، ولا يحب العمليات الجراحية.
أخبره الطبيب بلطف أن قسطرة ودعامات القلب لا تعتبر عمليات جراحية. لم يكن راضيا تماما لكنه اطمأن لهزة رأس أخي الطبيب وهي تؤمن على كلام زميله. واتكأ على الممرضين وهم ينقلونه من سرير الطواريء إلى السرير المتحرك ثم إلى غرفة رعاية القلب.

هل استخدمت في كتابتي عنه تعبير "عليك تتكيء الحياة"؟ ربما اقتربت تعبيراتي من ذلك، لا أذكر بالظبط، ولكن أذكر اللحظة التي حذفت فيها الإشارة لهذه القصيدة في الكتاب لأن ممدوح عدوان كتبها رثاء لأبيه: "قد كنت أمس، عليك تتكيء الحياة". أذكر انقباضا خفيفا للقلب وأنا أقرأ سطرا كتبت فيه "قد كنت أمس" وأحذفه على الفور.

في ساحة المسجد، صافحني رجل بعينين محمرتين دامعتين، يخرج صوته مختنقا من خلف الكمامة وسألني إن كنت أتذكره. قلت له اعذرني، فقال أنا سائق سيارة أبيك وقتما كان رئيسا لشركة عمرافندي من 15 سنة، أبوك كان راجل محترم ونزيه، لم نعرف أبدا رئيسا للشركة يسكن في امبابة، كان أكثرهم مهابة، كان يسأل عنا ويجرى على حقوقنا حتى بعد تقاعده.
آلمتني "كان" في كلامه. لا أعرف من أخبره.

تخيلت مشهد عشرة شبان من العائلة على الأكثر، يصلون متباعدين صلاة الجنازة خلف الشيخ عبد المحسن في ساحة رخامية لمسجد فسيح بعيد في مدينة 6 أكتوبر، تلك كانت الخطة. ولكن ساحة المسجد امتلأت بأناس لا أعرفهم. ذكرت الشيخ أن يأمر الناس بالتباعد، فتململ الناس في أماكنهم ولم يتحرك أحد.

سألني الشيخ عبد المحسن إن كنت أحب أن أكون الإمام في صلاة الجنازة، فهززت رأسي بالنفي ودفعته ليتقدم، ولكنه نادى لرجل أن يتقدم وعرفنا به: الدكتور وزير الأوقاف السابق. وقال الشيخ لي: أبوك رجل دولة وهذا يليق به.

أحببت أنه لم يستخدم "كان". أنا مضطر لاستخدامها الآن. كان أبي يحاول دائما أن يتفهم رجال الدولة كواحد منهم، حاول حتى آخر لحظة حتى استعصى عليه أن يستمر كواحد منهم وتقدم باستقالته، وبعدها حاول مجددا حتى أصبح صعبا عليه أن يجد تبريرا لما يحدث. قبل شهر وسط أزمة الاعتقالات الأخيرة، قال لي أنه بالرغم من هذه الأيام صعبة ولكنه متفائل أنه سيحدث تغيير ما، ليس قريبا، "لكن هايحصل أكيد، أصله ما ينفعش تكمل كدا، وأنتم أجيال بنت كلب صعبة، هايعملوا معاكم إيه يعني".

بالأمس حكى لي أخي لأول مرة أن أبي ذات مرة أمره بتحضير حقيبة فيها ملابس بيضاء ومستلزمات يمكن إدخالها إلى الحبس، وحضّرها بالفعل. كنت عائدا من الخارج وسط ظروف عصيبة ووجدته واقفا في صالة الجوازات يضحك مع ضباط المطار. سألته ماذا فعل فقال لي: ولا حاجة، أبوك له حبايب في كل حتة.

لم يكن أبي يعود للمنزل عادة إلا قرب الفجر، دائما هناك شلة يسهر معها، شلة أصدقاء الطفولة في امبابة، شلة أصدقاء كلية الفنون الجميلة، شلة محبي الكرة، شلة المتصوفة، شلة الفنانين، شلة رجال الدولة. أصاب الوباء واحدا من هذه الشلة أو تلك، وكان بالتليفون يدبر لهم الأماكن في المستشفيات ويتوسط لهذا وذلك ويساعد الأسرة في ترتيبات العزاء. كان يؤلمه أنه لم يستطع شهود الجنازات السنة الماضية. يرسل لنا الرسائل يذكرنا ألا ننسى أن نعزي أولادهم.

سألني أبي ونحن نخرج من المطار: مال دراعك الشمال؟
ذراعي اليسري أصابها شيء ما وأنا أرفع الحقيبة الضخمة من على سير الحقائب. حاول أن يأخذ مني الحقيبة الكبيرة ليجرها فرفضت فأخذها مصطفى.

وضعت يدي تحت الصندوق لأرفعه مع الرجال، فخذلتني يدي اليسري وعادوني الألم، ذهبت من الجهة الأخرى، كانوا قد رفعوه عاليا، حاولت وضع كتفي تحته لكن الرجال كانوا أطول مني. مشيت معهم كتفي تحت الصندوق بلا أي ثقل عليه.
.
لم أقو على رفع ذراعيّ للدعاء عند القبر. لم أسمع معظم الدعاء. شردت وأنا أتذكر يوم وفاة جدي/أبيه. ناداني أبي بصوت زاعق أن أحضر له شيئا، كان يتجهز للنزول وكنت أصغر من أن أذهب معه، وقفت أمامه وظهر على وجهي الخوف، المرة الأولى والوحيدة التي رأيت فيها عينيه دامعتين، قام سريعا وربت على رأسي وخدي وقال بصوت خافت أنه سيحضره بنفسي. قال لأمي أن تفتح لنا التليفزيون، وقال لي أن أشغل أخويّ باللعب أو بمشاهدة شيء، الحزن في القلب.

بعد عودته قال لي أنت تشبه جدك أكثر مما تشبهني، وأنه يشبه أمه أكثر. فكرت أن أقول له أنني أيضا، مثله، أشبه أمي أكثر.

انتهى الدفن وانتبهت أننا نزيد على الأربعين شخصا، معظمهم لا أعرفهم، واقفين جميعا بلا حراك، تذكرت ما كان يفعله أبي في نهاية الجنازات. كان ينادي على كل واحد باسمه يأمره بالرحيل ثم يزعق قليلا بحنان فيمن لا يتحرك ويذهب ويربت على كتفه ويقول له: هو ارتاح خلاص، روحوا ارتاحوا.
يوزع الناس على السيارات المتاحة ويخبر ذلك أن هناك مكان في سيارة ذاك، ويتأكد أن الجميع رحلوا قبل أن يركب سيارته.
فعلت ذلك هذه المرة نيابة عنه
--------------
فيسبوك

عمرو عزت
الاربعاء 6 يناير 2021