
صدرت سنة 2019 عن مؤسَّسة الدِّراسات الفلسطينيَّة في بيروت ورام الله الطَّبعة الأولى من الإهداء وصورة الغلاف
قدرة الدُّروز العالية في التَّكيُّف وجدت صداها عند المؤرِّخين الصَّهاينة، ووضعوا هذه الصِّفة ضمن ما يمكن البناء عليه، وصنَّفوها ضمن ممارسة الدُّروز التُّقية الدِّينيَّة
صمَّمت مايا شامي غلاف الكتاب بلونه الأزرق، الَّذي يحتوي في زاويته السُّفليَّة من اليسار راية المسلمين الموحِّدين الدُّروز، ويبرز تحتها شيخ درزيٌّ، يتوكَّأ على عكَّازه بجوار معالم تاريخيَّة من جبل العرب، وعلى يسار الشَّيخ بندقيَّة إسرائيليَّة، تشير إلى المجنَّدين الدُّروز في الجيش الإسرائيليِّ، أو تلخِّص مقولة عنوان الكتاب الفرعيِّ في إشارة إلى انتقال شباب الموحِّدين الدُّروز من العمل في الأرض بالمحراث الزِّراعيِّ إلى العمل في الجيش الإسرائيليِّ، وتحت هذه الصُّور أو الأيقونات صورة أخرى لفلَّاح درزيٍّ يحرث أرضه بمحراثه القديم خلف الحصان. وقد أهدى المؤلِّف كتابه (إلى روح سلطان باشا الأطرش، الَّذي حاول النَّاشطون والمؤرِّخون الصُّهيونيُّون تلطيخ اسمه، وإلى روح والد المؤلِّف ماضي حمزة فرُّو).
كلمات شكر
يتألَّف الكتاب من ستَّة فصول، تسبقها مقدِّمة مع كلمات شكر وتوطئة، وتتلوها خاتمة واستنتاجات وفهرس، وقد عبَّرت كلمات الشِّكر عن مشاعر جيَّاشة تصوَّر فرحة المؤلِّف حين رأى-في آخر حياته وبعدما اشتدَّ عليه مرض الموت-كتابه قد أبصر النُّور بعد جهد طويل، ويشبه ظهور هذا الكتاب انتفاضة العنقاء من تحت الرَّماد، كي تبصر الحقيقة النُّور قبل أن يطمس معالمها شهود الزُّور ومزوُّرو الحقائق الصَّهاينة، الَّذين اعتادوا على تحويل الخائن إلى بطل، وتصوير البطل خائنًا.
التَّوطئة والمنهجيَّة
تحظى توطئة هذا الكتاب بأهمِّيَّة كبيرة؛ لأنَّها تكشف في جانب من جوانبها عن منهجيَّة المؤلِّف واعتماده على الوثائق والأرشيفات الإسرائيليَّة ذاتها مصدرًا من مصادر الكتاب المتعدِّدة، لا سيَّما المصادر الَّتي اعتمد الكاتب على بعضها في كتابه: (الدُّروز في الدَّولة اليهوديَّة)، الَّذي صدر باللُّغة الإنكليزيَّة سنة 1999، وقد تعامل الكاتب بحذر مع انتقائيَّة الأرشيف الإسرائيليِّ، الَّتي تعكس اهتمام المشتغلين بها، وتوجُّهاتهم الأيديولوجيَّة أيضًا. وبرغم الاستفادة من الأرشيف الإسرائيليِّ والحذر منه كانت معظم مواد هذا الكتاب جديدة، واستدلَّ عليها المؤلِّف باقتباسات من مصادر لمؤرِّخين إسرائيليِّين تحدَّثوا عن علاقة الدُّروز بالصَّهاينة في عهد الانتداب البريطانيِّ على فلسطين بين 1920-1948، وحاولوا بناء سرديَّاتهم التَّاريخيَّة الخاصَّة بهم، تلك الَّتي لا تعكس تطلُّعات النَّشاط الصُّهيونيِّ في عهد الانتداب وحسب، وإنَّما بنوا سرديَّتهم التَّاريخيَّة هذه بما يخدم أهدافهم الاستيطانيَّة في الحاضر والمستقبل. وقد هدف الكاتب من تفنيد بعض المغالطات، ونقد الانتقائيَّة والتَّحيُّز الأيديولوجيِّ إلى تحرير الرِّواية الفلسطينيَّة من سطوة الأرشيفات الصِّهيونيَّة معتمدًا في ذلك على جملة من الشَّهادات من خلال المقابلات الشَّفويَّة الحيَّة للمؤرِّخين الفلسطينيِّين.
التَّوطئة
تحدَّث المؤلِّف في التَّوطئة عن عنوان كتابه الَّذي استوحاه من محاضرة له؛ قدَّمها في جامعة حيفا في الخامس من تشرين الثَّاني/نوفمبر 2015، وتناول فيها الانتقال من العمل في الزِّراعة إلى العمل في سلك الأمن وتأثيره في سلوك أبناء الطَّائفة الدّرزيَّة في الدَّولة الصُّهيونيَّة، وتأثير ذلك في بعض نخبها الَّتي تستخدم خطابًا يشبه (خطاب المرتزقة في مطالبتها الحصول على حقوق متساوية).
وتحدَّث كذلك عن الدُّروز شمال فلسطين أمام الوضع الجديد بعد الحرب العالميَّة الأولى 1918، وأشار إلى التَّنافس بين ثلاث عائلات متنفِّذة، وأشار إلى تدخُّل الحركة الصُّهيونيَّة بعد مراقبتها هذا الوضع عن كثب، وتحدَّث عن وضع الدُّروز الفلسطينيِّين خلال العام الأوَّل من الثَّورة الفلسطينيَّة الكبرى، وأشار إلى محاولات منع دروز سوريا من المشاركة في ثورة فلسطين بعد عرض صهيونيٍّ لعقد اتِّفاق صداقة مع الدُّروز، بالإضافة إلى عمل الصَّهاينة الاستخباراتيِّ المنظَّم لنشر فوضى السِّلاح بين الدُّروز.
مقدِّمة الكتاب
أشار الكاتب في مقدِّمته إلى أنَّ ثاني رئيس للدَّولة الصُّهيونيَّة يتسحاق بن تسفي (1884-1963) كان أوَّل ناشط صهيونيٍّ فكَّر بإقامات علاقات وثيقة مع الدُّروز، وانتسب بن تسفي هذا إلى حزب عمَّال صهيون، الَّذي خرج من رحمه حزب العمَّال الإسرائيليِّ (مباي)، وصار بن تسفي بعد هجرته إلى فلسطين خلال الانتداب البريطانيِّ واحدًا من أبرز قادة الحركة الصُّهيونيَّة النَّاشطين في مجال الاستيطان. وسار بن تسفي في هذا المنحى خلال مرحلة الانتداب البريطانيِّ، وجمع معلومات مهمَّة عن الدُّروز، وكتب أبحاثًا عنهم، وطلب من كمال نجيب القاسم بوصفه واحدًا من أوائل الطُّلَّاب الدُّروز من منتسبي الجامعة العبريَّة أن يترجم له مقالًا كتبه بن تسفي عن الدُّروز، وكان بعنوان (الدُّروز لغز تاريخيٌّ)، وانطلق فيه من توصيف الرَّحَّالة اليهوديِّ رابي بن يامين التَّطيليِّ الأندلسيِّ (1130-1173)، وقدَّم التَّطيليُّ أوصافه عن الدَّروز، ورأى أنَّهم يحبُّون اليهود، وهم قوم متمرِّنون على تسلُّق الجبال والرَّوابي، ووجد أنَّه لا يمكن لأحد أن يحاربهم، ورأى أنَّ للدُّروز طابعًا ومصيرًا خاصَّين بهم، يفرقان بينهم وبين سائر الأمم، وتشبه خصوصيَّتهم خصوصيَّة اليهود، لا سيَّما في مجال صعوبة الفصل بين الدِّين والقوميَّة عندهما.
ووجد الكاتب الإسرائيليُ غابرييل بن دور أنَّ كثيرًا من الكتَّاب اليهود يشدِّدون على ميل الدُّروز إلى التَّحالف مع أقلِّيَّات أخرى، بدليل حسن علاقتهم باليهود عبر التَّاريخ منذ القرن الثَّاني عشر الميلاديِّ، واقتبس بن دور من التَّطيليِّ إشارته إلى أنَّ بعض الحرفيِّين اليهود يأتون إلى الدُّروز، ويتبادلون معهم البضائع، ثمَّ يعودون إلى بيوتهم، والدُّروز يحبُّون اليهود. وقد وجد نيسيم دانا منظِّم المحكمة المذهبيَّة الدُّرزيَّة في إسرائيل منذ تأسيسها سنة 1964 أنَّ محبَّة الدُّروز لليهود لا تزال قائمة. لكنَّ المؤلِّف فنَّد انتقائيَّة الاقتباس من شهادة التَّطيليِّ عن الدُّروز، وأورد الاقتباسات بكاملها بطريقة تدلُّ على خُبث المؤلِّفين الصَّهاينة وسعيهم إلى استمالة الدُّروز نحوهم.
وقد ركَّز المؤرِّخون اليهود على جانب آخر ومهمٍّ جدًّا بالنِّسبة لنشاط الحركة الصُّهيونيَّة، وهي جملة كتبها يتسحاق بن تسفي عن (قدرة الدُّروز على التَّكيُّف)، وفق المحيطين الدِّينيِّ والسِّياسيِّ بطريقة يمكن فيها تكريس ولائهم للصهاية والاستفادة الممنهجة من هذا الولاء. ويرى يتسحاق بن تسفي أنَّ الطَّائفة الدِّرزيَّة قد ابتعدت كثيرًا عن أصلها الشِّيعيِّ إلى درجة ذكر فيها الرَّحَّالة المسيحيُّون هذه الطَّائفة، ووجدوا أنَّها طائفة قريبة من النَّصرانيَّة أو التَّنصُّر.
وبرغم انتقائيَّة بن تسفي في بناء سرديَّته التَّاريخيَّة إلَّا أنَّ ملاحظته على قدرة الدُّروز العالية في التَّكيُّف وجدت صداها عند المؤرِّخين الصَّهاينة، ووضعوا هذه الصِّفة ضمن ما يمكن البناء عليه، وصنَّفوها ضمن ممارسة الدُّروز التُّقية الدِّينيَّة، ووجدوا في هذه التُّقية مبدًا سياسيًّا يستخدمه الدُّروز في إظهار ولائهم للدُّول الَّتي يعيشون فيها، ثمَّ يناقش مؤلِّف هذا الكتاب مفهوم التُّقية في أصلها اللُّغويِّ في مقدِّمة كتابه،ويقدِّم ملاحظاته على هذه التًّقية، ويعرض جملة من مقالات المؤرِّخين الصَّهاينة عن الدُّروز قبل الانطلاق في الفصل الأوَّل من فصول كتابه هذا. اكتفيت بهذا العرض حول عنوان هذا الكتاب وقصَّة تأليفه وتمهيده ومنهج مؤلِّفه، إلَّا أنَّ هذا العرض الموجز لا يكفي، وأجد أنَّ قراءة هذا الكتاب قراءة تحليليَّة نقديَّة بعد الوقوف عند تفاصيل أحداثه ومصادر مؤلِّفه ومراجعه أكثر نفعًا من أيِّ تلخيص، وقد يجد القارئ في كثير من الأحيان أنَّ ما بين سطور هذا الكتاب أهمُّ من السُّطور ذاتها