نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

من نطنز إلى صعدة: مواد القنبلة في قبضة الوكيل

24/07/2025 - السفير د. محمد قُباطي

في كذبة الوطنية السورية

21/07/2025 - غازي دحمان

خديعة الرحمة

03/07/2025 - هناء محمد درويش


زياد الرحباني: بين العبقرية الفنية والتخاذل السياسي




برحيل زياد الرحباني، خسر الفن العربي واحدًا من أكثر رموزه الحديثة فرادة وتمردًا وتجريبًا. فهو الصوت المختلف، والفنان الذي صاغ لنفسه هوية فنية نادرة لا تُقلّد، مستلهمًا من الإرث الرحباني، دون أن يكرّره، بل معارضًا له أحيانًا، ومؤسّسًا لخط ساخر، جريء، ونقدي، أعطى الأغنية والمسرح العربي بعدًا جديدًا لا يزال تأثيره حاضرًا حتى اليوم.


 

الفنان الذي حمل وجع الناس يوماً، قرر في لحظة ما أن يتخلى   عنهم 

  
كان زياد حالة متكاملة: مؤلفاً موسيقيًا، كاتباً مسرحياً، وممثلاً، وعازفاً ومايسترو… لكنّ أهميته لم تكمن فقط في موهبته، بل في جرأته على كسر القوالب الموروثة، ومساءلة السلطة، والدين، والعائلة، والطبقة، من خلال فنّه الساخر والمرّ. ومن هنا، ارتبط اسمه بالوجدان الشعبي، وتحوّل إلى ما يشبه “الضمير الساخر” لجيل كامل، خاصة خلال الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها.
غير أن هذه المسيرة الاستثنائية لم تكن بمنأى عن التناقض. فمنذ أن اختار زياد التورط في المشهد السياسي اللبناني والإقليمي، بدأ تدريجيًا يفقد تلك المسافة التي حافظ عليها لسنوات بين الفنان والمثقف المشتبك. كان من المؤلم لمحبيه أن يروا الصوت الذي انتقد الميليشيات، والطائفية، والسلطة، وقد انزلق إلى خطاب منحاز، يصطف بشكل مباشر مع قوى سياسية ارتبطت في الوعي الجمعي خصوصًا اللبناني والسوري بالدمار والقمع والطغيان .
لقد تحوّل زياد، كما كثير من المثقفين في هذه المنطقة، من حامل لقضايا التحرر والعدالة، إلى مدافع عن محاور سياسية محددة، بحجج ظاهرها الممانعة وباطنها الاصطفاف الأيديولوجي. وهكذا، خان ما يمكن اعتباره المبادئ الأساسية لليسار الذي طالما انتسب إليه: العدالة الاجتماعية الشاملة، رفض الطائفية، والنضال من أجل المظلوم، أيًّا كان دينه أو طائفته. بدلًا من أن يكون صوت الأغلبية المطالبة بالتغيير، صار اليسار الذي ينتمي إليه زياد يمثّل أقلية معزولة، تدافع عن أنظمة قمعية باسم “المقاومة ”.
ولعلّ المقارنة هنا تستدعي مثالًا من التاريخ: كارل ماركس، المفكر الثوري الذي لطالما قرأ التحولات بعين الناقد، لم يكن منذ البداية يصف الثورة الفرنسية بتأييدٍ مباشر، بل قال عن الشعب الفرنسي إنهم «يناطحون السحاب»، في إشارة إلى الحماسة الجارفة والأمل المستحيل في وجه الملكية. لكن حين تحوّل الحلم إلى فعل، وحين نزل الناس إلى الشوارع واشتعلت الثورة، لم يتردد ماركس في إعلان انحيازه الصريح قائلاً: «لا أستطيع إلا أن أكون معهم». هنا يتجلى الفارق بين من يكتب عن الثورة، ومن يسير معها.
زياد، على النقيض، اختار أن يقف في الضفة التي تُطلق النار على الشارع، لا تلك التي تسير فيه. فانحيازه لم يكن للناس حين طالبوا بالكرامة، بل لأنظمة صدّت الكرامة بالقمع والحديد. وهذه المفارقة هي ما يجعل من تجربته مثارًا للأسى: فالفنان الذي حمل وجع الناس يومًا، قرر في لحظة ما أن يتخلى عنهم
إن واحدة من أكبر كوارث هذه المنطقة، أن يتدخّل الفنّان في الشأن السياسي الجاري دون وعي كافٍ، أو إدراك لتعقيدات الواقع. لقد رأينا ذلك في سوريا بشكل مؤلم، حيث تورّط عدد من الفنانين في تبنّي روايات السلطة والدفاع عنها، ما أدى إلى تمزيق صورتهم في وجدان الجمهور الذي لم يكن يفرّق غالبًا بين الفنان ودوره، وبين مواقفه الواقعية.
زياد لم يكن استثناءً. فكما مثّل نموذجًا للتمرّد الفني، مثّل أيضًا نموذجًا للخذلان السياسي. مواقفه تجاه الثورة السورية، وتجاه القوى المتورطة في قمعها، كانت بالنسبة لكثيرين خيبة أمل يصعب تجاوزها، حتى مع عظمة إنجازه الفني. وهذا التناقض الصارخ هو ما يجعل الحديث عنه اليوم معقّدًا، لأن عبقريته الموسيقية لا تُلغى، لكن وعيه السياسي لا يُبرّر.
في النهاية، سيظل زياد الرحباني فنانًا استثنائيًا طبع الذاكرة العربية بعبقرية فنية لن تتكرر. لكن ذلك لا يمنعنا من النظر بموضوعية إلى تجربته، بكل ما فيها من إبداع وارتباك، من فرادة وخذلان، من موسيقى ستبقى خالدة، ومواقف سياسية ستظل محل جدل ومرارة.
وربما هنا تكمن المأساة: أن يكون الفنان أكبر من عصره فنياً، وأقل من مسؤولية هذا العصر سياسياً

نوار الماغوط – العربي القديم
الاحد 27 يوليوز 2025