نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


عشاق المناصب وأساليبهم في رسائل الخوارزمي




يوم تقبل عليك الدنيا يرتادك الناس وكأنك مصيف بحري مزهر مشمس عليل النسيم، ويوم تدبر يدبرون قبلها ويتركونك لوحشة الرمل والصقيع. هل اخلاق البشر رديئة الى درجة انهم يظلون يحومون دون هدف حول كل صاحب سلطة او مال...؟ ولماذا تغري المناصب ضعاف النفوس، فيظنون ان لا حياة لهم دونها..؟ وما داموا كذلك فما هي الطريقة التي يحبون ان يعاملهم بها الناس..؟



ابو بكر الخوارزمي في رسائله الشائقة والبليغة أجاب عن بعض هذه الاسئلة واخرى مشتقة منها قد لا تخطر لك الآن على بال، وكان في موقع يعرف منه العامة والرعاع، واهل السلطة والسلطان. اما طبقته، فأولئك الذين ذمهم الجاحظ مؤلف الرسالة القيمة في ذم أخلاق الكتاب.
والاغلبية من رسائل الخوارزمي موجة تهنئة بمنصب او تعزية بعزل عن وظيفة، فهو كما ترى يراوح في حدود تلك الطبقة التي كانت تظن انها تسير السلطان، وما كان السلاطين ينظرون اليها والى مواقعها ارفع من نظرتهم الى حذاء ضيق يبدلونه تخلصا من مضايقاته، وهذا المعنى أجاد به المحدثون اكثر من القدماء فقال احدهم في وزير معزول:
خلعوه ساعة عينوه فكان في
رجل الحكومة كالحذاء الضيق
ولا بد لمن يعاشر هذه الفئة من الموظفين الكبار ان يصاب برشة من سوء اخلاقهم منهم اهل نفاق وانتهازية ولا مانع عندهم من الشماتة بكل من تحمرُّ عليه العين، فها هو الخوارزمي على جلال مكانته بين كتاب عصره لا يخفي شماتته بالحاجب ابي اسحاق حين نكبه الصاحب بن عباد، لكنه ولمعرفته باحتقار الناس للشماتة والشامتين يغلفها باطار النصيحة، لكنك تقرأ الرسالة، وتعرف ان المعنى المخفي بين السطور هو الثناء على الوزير الذي عزل ذلك الحاجب لسوء أخلاقه، وقلة وفائه، وربما كان الخوارزمي ينافقه قبل يومين من كتابة تلك الرسالة حين كان بيده ان يعطي ويمنع ويأذن بالدخول الى حيث توزع الهدايا وتدار الشمول.
وقد ذكرنا هذه الرسالة بالذات لأنها تحتوي على ذم الخوارزمي للمتنبي في معرض ضرب الامثلة وفيها اسلوبه الجارح الذي لا تخطئه العين، فهو من الكتاب الذين يجرحون ويسيلون الدماء وليس من ذلك الصنف الذي يهاجم ناعما بقفازات من مخمل وحرير.
يقول الخوارزمي بعد قفلة نفاق معتبرة للوزير الخطير لا بد من ايراد بعض منها لمعرفة اغراض كتابة تلك الرسالة الشامتة ضمنا، وهناك رسالة شماتة علنية نشير اليها في سياقها:
«... فاذا هو ضالة رجائي الحالم، وبغية قلبي الهائم، فختمت به جريدة المدح والثناء، واغلقت باسمه باب الاستماحة والرجاء، وفتحت له مغاليق فكري ودفعت اليه مقاليد نظمي ونثري وأقطعته لساني غير منقطع، ووهبت له قلبي غير مرتجع».
* غزل السلطة
* والملاحظ على نفاق الكتاب للسلطة في كل زمان ومكان انه يشبه الغزل فكأن المادحين «غانية مهجورة» والسلطان معشوق يجب استرضاؤه بكل الاساليب، وهم حين يطعمون النفاق النثري بالشعر تأتي الابيات ايضا لتدعم هذا المعنى، فبيت الخوارزمي الذي يستعطف به وزيرا آخر ينفع اضافة الى خدمة غرض النفاق لاستخدامات العشاق المهجورين:
فمن لي بالعين التي كنت مرة
الي بها في سالف الدهر تنظر
ولا يجوز ان نظلم العاشق المهجور وهو يسترخي، فذاك كريم النفس يجاهد من اجل هدف مشروع على عكس المنافق السلطوي الذي يحركه الجشع، وتديره المصلحة ويلغي الفحولة والانوثة ليتحول الى خنثى مستعطية.
والآن الى فقرة المتنبي التي اغاظت اجيالا كاملة من محبي ذلك الشاعر الكبير وجعلت بعضهم يقف من الخوارزمي موقف العداء الى يوم الدين، والنص من رسالة الحاجب المنكوب، وفيه بعد «وصلة الردح الشبراوية» لأبي الطيب الموقف التقليدي العربي من النساء .. وتلك قضية محيرة من ذكور العيب والتخنيث فيهم، لكنهم ينقلونه ظلما للجنس الآخر .. يقول الخوارزمي:
«... ونظرت الى أبي الطيب والى تناقض حكمته، وتفاوت طرفي فعلته، حيث قال في سيف الدولة:
لا تطلبن كريما بعد رؤيته
ان الكرام بأسخاهم يدا ختموا
وقال في كافور الاخشيدي:
قواصد كافور توارك غيره
ومن قصد البحر استقل السواقيا
فلقد باع من الوفاء علقا خطيرا، واعتاض من الطمع ثمنا يسيرا، وحال ضباب الحرص والرجاء بينه وبين العهد والوفاء، وكان يضايق نفسه في اختبار المتاع، ويسامحها في اختيار المبتاع، ويخلع خلعة من نظمه تساوي بدره على عرض من لا يساوي بعره، ويزف كريمة من كرائم شعره، الى من لم تقم عنده كريمة، ولم تعرف له قيمة، لو رأى الطمع في جحر فأرة لدخله، ولو اتاه الدرهم من است كلب لما غسله، فلا جرم ان الناس كما استحسنوا قوله، استقبحوا فعله، وكما اعجبوا بشعره، تعجبوا من غدره، يشكر ثم يشكو، ويمدح ثم يهجو، ويشهد ثم يجرح شهادته، ويعطي ثم يسترجع عطيته، فكم من حر فضله ثم ثلبه، وكم من عرض كساه ثم سلبه، وكم من صفحة أكل منها ثم بصق فيها، ولكن في قميص ابي بكر رجلا اذا اعطى لم يرتجع، واذا طلق لم يراجع، واذا بنى لم يعد على بنائه بالهدم، واذا مدح لم يطأ على عقب مديحه بالذم، واذا طيب فكيه بالمدح للكريم، لم يلطخهما بمدح للئيم، واذا زوج كرائمه كفؤا حجبهن ان يتبرجن الا لديه، ويجتليهن غير عينيه، وانما الغدر من اخلاق النساء فمن تعلق بطرف منه فقد رغب بنفسه عن كمال الذكران، وجذبها الى شق النسوان، وهو اذن مخنث من حيث الخلق، وقد يصلح الانسان خلقه، ولا يمكنه ان يغير خلقه، فالغدر اذن على هذه القضية هو التخنيث الاكبر والتأنيث الاعم الاكثر...».
وقد رد كثيرون دفاعا عن المتنبي الشاعر الفرد ونسوا الدفاع عن النساء عامة كجنس ناله من قلم الخوارزمي الكثير ليس في هذه الرسالة وحدها، بل في رسائل اخرى كثيرة، فهو في ثلاث منها يؤكد ان افضل المصاهرات مصاهرة القبر اي ان تدفن ابنتك او اختك وترتاح دون عناء التفكير بمشاكلهما وعواطفهما وتفاعلات حياتهما الاجتماعية التي تجلب الصداع عادة للرجال المتزمتين منذ القدم والى هذه الايام.
واوضح هذه الرسائل التي تحض على مصاهرة القبور واحدة كتبها الشيخ لرئيس «بهراه» يعزيه في موت ابنته وابن اخته، والعطف طبعا على الذكر فغيابه المصيبة الحقيقية. اما المكرمات فهي «بقاء البنين وموت البنات». ومن التعبيرات المضحكة في هذه الرسالة ان الشيخ يعتبر الفقيدة انثى في كل شيء اي لا قيمة لها، لكنها وهنا النكتة التي لم ينتبه اليها كاتبها في هذا الموقع الاستراتيجي لشر البلية «فإن تكن قد خلقت انثى لقد خلقت كريمة غير انثى العقل والحسب».
وبعد هذا التأكيد على عدم انوثة عقلها وحسبها يواصل الخوارزمي تعزيته التي تبدو اقرب ما تكون كهجائية للنساء:
«ولولا ما ذكرته من سترها، ووقفت عليه من غرائب امرها، لكنت الى التهنئة اقرب من التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، ونحن في زمان اذا قدم احدنا فيه الحرمة، فقد استكمل النعمة، واذا زف كريمة الى القبر، فقد بلغ امنيته من الصهر».
«وقال الاول»
ولم ار نعمة شملت كريما
كنعمة عورة سترت بقبر
«وقال الثاني»
تهوى حياتي واهوى موتها شفقا
والموت اكرم نزال على الحرم
«وقال الثالث»
وددت بنيتي ووددت اني
وضعت بنيتي في لحد قبر
«وقال الرابع»
ومن غاية المجد والمكرمات
بقاء البنين وموت البنات
«وقال الخامس»
سميتها اذ ولدت تموت
والقبر صهر ضامن وبيت
وقد كنت على ان افرد في معناها كتابا الى الشيخ، ثم تطيرت له من تناسق التعزيتين، كما توجعت له من تواتر المصيبتين».
* أم مسكويه
* ولاحقا سوف نجد المعنى ذاته يتكرر في رسالة ساخرة كتبها الى مسكويه يهنئه بزواج أمه، ولك ان تتصور ماذا يمكن ان يقال في ذلك الموقف المحرج لرجل كان من كبار اعيان الدولة واقرب وزراء ابن العميد اليه، وصاحب خزانة كتبه اي بمثابة وزير ثقافته، وقد خلط الخوارزمي الجد بالهزل وقال مهنئا وزير الثقافة بزواج أمه من غير أبيه في اسلوب يكشف ما بين مثقفي السلطة من ثارات نائمة تأخذ شكل المزاح البريء:
«وبلغني ما اختارته الوالدة صانها الله تعالى، فحمدت الله تعالى الذي رزقك والدا لا يلزمك حق ابوته، ووعدك اخا لا يجملك حمل اخوته، وقد كنت اسأل الله تعالى ان يبارك لك في حياتها، والآن اسأله ان يعجل لك بوفاتها، فإن القبر اكرم صهر، وان الموت استر ستر، ولا تذهب نفسك حسرات على ما سبقك عليه الدهر وغلبك عليه الرزق فلا حمية في ما احل الله، ولا مضايقة من حيث وسع الله، وللانسان اباء والحمد لله الذي كان العقوق من جهتها ووقع الجفاء من جنبتها، فإنك بررتها صغيرا وبلغت مرادها كبيرا، فاجتمع لك بران ووقع لك على الله اجران».
ومن النساء ومصاهراتهن الى المثقف والسلطة ومواقف الكتاب في العزل، والتسنم، فســـــوف لن نجد من هو اكثر خبرة في هــــذا الموضوع بعد الجاحظ غير الخوارزمي الذي استشهد وهو يعزي وزير خوارزمشاه بنكبته بابن المعتز خليفة اليوم الواحد الذي اشبعه الناس شماتة وتشفيا بعد ان هرب من قصره، ثم قبض متخفيا بثياب النساء في بغداد تماما مثل نوري السعيد بعده بألف ومائتي عام:
يا محنة الدهر كفي
ان لم تكفي فخفي
قد آن ان ترحمينا
من طول هذا التشفي
وقد بالغ الخوارزمي في تجميل العزل وهو يدري انه من اصعب الامور على من اعتاد المنصب، لكنه والحق يقال كان مقنعا الى حد كبير، وكيف لا يكون، وهو يوظف بيتين جميلين يثبتان ان الامير الحقيقي تتأكد امارته يوم عزله، فالفضل في النفس وليس في الكرسي، ومن كان صاحب نفس أبية عزيزة فاضلة فهو الامير الحقيقي، وليس ذاك الذي ينام على حرير قصر الامارة:
ان الامير هو الذي
يضحي اميرا يوم عزله
ان زال سلطان الولاية
كان في سلطان فضله
والظاهر ان الشماتة بالمسؤول المعزول مسألة ثابتة مع الامراء والقضاة، واصحاب الخراج، فدائما هناك ذلك التلويح بأن الدهر دولاب، وان الشامت سيلقى ذات يوم ما لقيه من يشمت بهم، وذاك المعنى يرد عند الخوارزمي في رسالته لقاضي سجستان بعد ان نكبه أميرها، ومع القضاة لا توجد «منطقة وسطى»، فإما ان يقالوا لعدلهم، واما لرشوتهم وفسادهم، وفي حالة قاضي سجستان لا نعرف اين يقف «لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار»، لكننا نعرف من ابيات الاستهلال ان الشامتين كانوا كثرا:
اذا ما الدهر جر على اناس
كلاكله اناخ بآخرينا
فقل للشامتين بنا افيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا
ومع كل هذه الحكم التي ينثرها في التحذير من الشماتة لم يمنع الخوارزمي نفسه من ان يشمت بأبي القاسم بن أبي الفرج كاتب ركن الدولة، حين تم عزله، فهو وبعد ان يقذفه بذلك البيت الثاقب للصدور الذي يذكر بقبائل كاملة من الانتهازيين:
ستعزل ان عزلت ولا يساوي
صنيعك في صديقك نصف فلس
يسارع الى تقريعه بلغة سوقية بعض الشيء «فلقد ظفرت، فلم تضبط لنفسك نشاطا، ونكبت فلم تملك استك ضراطا، فضقت عن احتمال الفرحة، كما عجزت عن احتمال الترحة، فلم توجد يوم سعدك شاكرا، ولا يوم نحسك صابرا، فالحمد لله الذي جعل أمسك لنا عبرة، ويومك لنا نعمة، ولا عدمنا فلكا دار بردك الى قيمتك».
ودارت الافلاك بالخوارزمي كما دارت بغيره، لكن الطعنة جاءته من الكتاب زملاء المهنة وليس من السلطان، فقد ظن بديع الزمان الهمذاني حين شاخ الخوارزمي وبدأ الصراع بين جيلين، الاول يتملق السلطة والسلطان، والثاني يتزلف الى العامة لأنه يعرف ان ارتفاع صيته عندهم يغري باستخدامه السلطان «تيتي تيتي»، وتشاء الاقدار ان يتناظر الاثنان عند شيعة نيسابور، وكان الهمذاني أمهر حديثا واقناعا، في حين كانت قوة الخوارزمي بالكتابة. وهكذا هزم امام خصمه الشاب شر هزيمة وعاد الى بلدته حزينا كسير الفؤاد وما لبث ان مات غيظا وكمدا، فصراع الكتاب في ذلك الزمان كصراع الديوك لا بد ان ينتهي بريش منتوف وجثة مدماة. اما صراعهم مع السلطة فنهايته معروفة لأن السلطات في كل زمان ومكان كالنساء المرفهات الانيقات يفضلن على الدوام استبدال الحذاء العتيق بعد «لبسة او لبستين»، ومن يريد من الكتاب والادباء والمثقفين الحفاظ على كبريائه وكرامته ليس امامه الا ان يسير على خطى الجاحظ الذي عينه المأمون رئيسا للديوان، وهو منصب يعادل رئيس الوزراء في هذه الايام، فجلس في المنصب يومين وفي الثالث هرب الى غير رجعة رافضا فكرة التحول الى حذاء في قدم السلطة والسلطان، وبذاك الموقف حفظ كرامة القلم وكبرياء الكتابة، وترك لنا ارثا فكريا نفاخر به على مر الايام والحدثان.

محيي الدين اللاذقاني
الثلاثاء 20 سبتمبر 2022