نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

عن روسيا وإيران شرق المتوسّط

08/05/2024 - موفق نيربية

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى


فتحي عبد الحافظ يقرأ مجموعة (صباح وشتاء ) لسيد البحراوي




المتع العابرة لا تخلف غير الحيرة والخواء هذا ما يراه أبطال (صباح وشتاء ) للدكتور سيد البحراوي وهي مجموعة حديثة يطل عليها نقديا فتحي عبد الحافظ في هذه الدراسة التي تلتقط ككاميرا المؤلف ما يستحق الوقوف والتأمل.


كاميرا الأديب واللحظات الفارقة فى حياتنا
بقلم : فتحي عبد الحافظ
"صباح وشتاء" هو العمل الإبداعي الثاني لأستاذ الأدب العربي والناقد الدكتور سيد البحراوي بعد روايته الأولي "ليل مدريد" . وقد آثر البحراوي أن يضع عمله هذا تحت عنون فرعي : "نصوص". هو إذن ليس قصصاً قصيرة أو رواية, ورغم أنه يحمل من ملامح القصة القصيرة الكثير . ورغم ما أثارته كلمة "نصوص" من جدل استغرق الكثير خلال إحدى الندوات التي أقيمت لمناقشة هذا العمل , إلا أنه ما زال يثير إشكالية الأعمال الأدبية التي تستعصي على التعريف . فهل هى نصوص أم لقطات أم صور أم تأملات أم ذكريات .... الخ. ولواقع أن الساحة الأدبية قد شهدت فى السنوات القليلة الماضية دروباً من التعبير الأدبي تختلف عما تعارف عليه مبدعو الأدب من قصة ورواية ومسرحية بحيث أصبح المجال متاحاً لصنوف من الإبداع تحتاج إلى جهد دءوب من النقاد لتحديد التعريفات من جديد , وهذه هى سمة الحياة الأدبية الحية التي يمكنها استيعاب الأشكال الحديثة من الكتابات المتنوعة والقادرة على فرز الغث منها والسمين .
نصوص سيد البحراوي تقع فى ستين نصا تتراوح بين ثلاث صفحات وأقل من ربع صفحة للنص الواحد , لذا فهي أقرب إلى اللقطات السريعة والمنتقاة والمركز تركيزاً شديداً فى كثير من مظاهر الحياة والمشاعر الإنسانية , وهي تجمع بين الخاص الشديد الارتباط بالذات , وبين العام الذي يرتبط بالقضايا القومية بل والإنسانية فى بعض النصوص , والبحراوي وهو يقدم نصوصه تلك لا يتخذ سمة المتفلسف أو المفكر العميق التفكير . ولكنه يقدم نصوصه فى بساطة أقرب إلى المناجاة وإلى روح الشاعر منها إلى روح المنظر , وإن كان هذا لا ينفي عن كثير من هذه النصوص سمة العمق والشعور الإنساني النبيل .
وإذا كان لكل نص مفتاح كما يقولون , فأغلب الظن ان النص الأول والمعنون "بالكاميرا المغلقة" يصلح مفتاحاً لنصوص هذا العمل . فالكاميرا المغلقة لا تلتقط شيئاً ولا تبوح بأسرارها , فإذا فتحت , والتقطت صورة , فإن هذه الصورة تبقى فى الذاكرة . هكذا يحطم البحراوي القف الذي يغلق الكاميرا لتنفتح , وتنهال الذكريات .
ولعل ذكريات النشأة الأولى حيث الأهل والخلان, حيث الأب والأم والقرية ومظاهر الموت والأفراح , هى الأكثر قرباً للنفس وحميمية , خاصة لمن هجروا القرية إلى المدينة (التي قد لا تبعد كثيراً) , وانتقلوا من مجتمع مترابط الوشائج إلى حد كبير إلى مجتمع منكفئ على ذاته , يحيا أفراده فى جزر منفصلة , طابعة أنانية مفرطة , ولهاث محموم تجاه المادة أو المنصب أو تحقيق الذات . والبحراوي وهو يرصد هذه المفارقة بين العالمين , لا يفرق فى تلك الرؤية المثالية التي تمثل انفصالاً تاماً بين عالمين , فيخص عالم القرية بكل ما هو جميل وإنساني ونبيل , بينما يدين عالم المدينة بالوحشية وتهرؤ القيم وانفلات المعايير , ذلك أن الراوي هنا . وهو الكاتب نفسه دون شك ـ ليست مهمته إصدار الأحكام بقدر ما هو مهموم حقيقة باستجلاء مواقف يفجرها سيل ذكرياته , فى محاولة لإحكام قبضته واقتناص لحظات فارقة فى حياته , لتظل بكامل إشراقها وبهائها قبل أن تطمسها غيوم الشتاء . هي ارتداد إلى الماضي للتمسك بالجذور وهو يرى كل ما حوله يختلط , ويقارب على الاندثار والتلاشي . وهي وقفة مع النفس ضد كل محاولات الطمس والتشويه التي تعتور حياتنا وتسلخنا عن هويتنا وماضينا . وهي شجرة الكافور التي ستظل تظللنا مهما تساقطت فى الشتاء أوراقها (نص : صباح وشتاء ) ما لم يذكره الراوي هنا ,أو لعله ترك لنا حرية استنتاجه أنه سيجيء حتما ربيع تزهر فيه الحياة وتكتسي الأشجار بأوراق خضر تظللنا وتمنع عنا القيظ والغبار , فما نفقده فى الشتاء تجدده الصباحات الجديدة , وما تظنه قد اندثر ومات , سيبعث ثانية من جديد ربما أشد قوة وأكثر حيوية وأبهي منظراً , وهكذا الحياة . وهذا نموذج لما أشرت إليه من أن عديداً من هذه الصور أو النصوص يرتفع من تصوير اللحظة الآنية إلى النموذج الأعم والأشمل الذي ينطبق على كثير من مظاهر الحياة الإنسانية . فشجرة الكافور المعمرة ستظل ثابتة , تنشب جذورها فى الأرض , تسقط أوراقها , أو تكتسي ملامحها بالغبار , لكنها أبداً لا تفقد صمودها وشموخها وإن سقطت أوراقها ــ كناية عن رحيل بعض أحبائنا ــ فإنها تجدد نفسها فالحياة لا تعرف سكونا أو جموداً أو توقفاً عن البذل والعطاء ، ومثلها مثل ) مسبحة أبى ) ذات الخيط القوي الذي يبدو أنه لن ينقطع مثل باقي المسابح , ذلك أن كل ما تعلمناه وورثناه من قيم أصيلة من آبائنا سيظل مناراً يهدينا فى دروب الظلمات وحلكاتها. فالأب المتوفي مازال حياً فى نظر الأم التي تحتفظ بباقي التورتة التي يحتفل بها الراوي فى عيد زواجه لتوزعه رحمة على روح الأب / الزوج (احتفال العيد العاشر(.
وجو القرية الحميم والأثير لدى البحراوي يكشف عن ولع شديد ليس بالنماذج البشرية المتمثلة فى الأب والام والجد والعم والأبناء والأحفاد فقط , بل يعشق المكان نفسه حتى لو كان يبعث على ذكرى الفقد , كطقوس العزاء والمقبرة (الصفحات من 17-25) أو ذكري فاتحة للشهية : "ذرة مشوية ص98". والمكان هنا ليس حيزاً مصمتاً أو استاتيكياً بل هو يحفل بالحياة . ويكشف عن كثير من المتناقضات , وعن تقلب الأوضاع وتبدلها . ففي طقوس العزاء الدكك الخشبية للفقراء والكراسي المغطاة بالقطيفة للأثرياء من المعزين , والاماكن فى السرادق مراتب ودرجات , حيث يحتل الأعيان والضيوف الغرباء الصدارة , وكلما بعدنا عن المكان تضاءلت قيمة الموقع . وقديماً كان للمدرسين موقع هام فى أولوية الصدارة , الأن أصبح لأثرياء النفط هذا الدور (ص18) . حتى نغمة المقرئ تختلف باختلاف قيمة ومكانة القادم للعزاء , فهو يغير الختام لأن القادم هو العمدة بما يصحبه من ضجة خفيفة , بينما يدخل فى الختام إذا كان القادم شخصاً عادياً (ص20) .
هكذا لا تكتفي كاميرا البحراوي بمجرد التسجيل المصمت للمظاهر بل هى تنفذ إلى ما تحت المرئي والملموس كاشفة عن المتناقضات والمفارقات التي تمور فيها وراء الظاهر للعيان . وفى لو حتى "مقبرة ص22" وفى المقبرة "ص24" يكتشف الراوي فى الاولي أن الرخامة التي تحمل رسم والده قد توارت فى الركن الأيمن أسفل الجدار , بينما تصدرت رخامة عمه الأصغر الصدارة التي تليها رخامة عمه الأوسط . وفى اللوحة الثانية يفاجأ بأن رخامة عمه الأصغر يكاد حجمها يصل إلى أربعة أصناف الأخريات لا بسبب سوى أنهم أقل عزوة .
وفى لوحة دالة بعنوان نظارة (ص6) يفتح الراوي الباب على والده الراقد على فراش المرض فى ظلام دائم منذ سبع سنوات , فينتبه الوالد ويسأله هل نسيت شيئاً ؟ فيقول. نعم نسيت نظارتي .فهل يستطيع أن يدرك معاناة الإنسان إلا من يكابدها ؟ الراوي لا يستطيع أن يجد طريقة بدون نظارته , أما الأب القابع فى الظلام من سنوات فإنه يحيا حياته قانعاً مستسلماً وسط دياجير الظلام . فأيهما المبصر وأيهما فاقد البصر ؟؟
وقرية سيد البحراوي ليس قرية جامدة كبركة أسنة . ولكنها قرية حية تتأثر بالأحداث وتؤثر فيها وتشارك فى الهم العام الوطني والقومي , وأطفالها يتظاهرون ضد وحشية الصهاينة فى فلسطين , ويرددون هتافاً هم فى الغالب مؤلفوه (يا شارون يا بن المرة , لم كلابك واطلع بره) ويحملون الأعلام الفلسطينية التي أمدهم الراوي بها , وترتفع الهتافات (فلسطين عربية رغم أنف الصهيونية) حتي الام المعممة طالبت بنصيبها من الأعلام لتوزعه على من تود , بينما يتوقف الأطفال عن شراء الحلوى لأن التلفزيون كان يذيع ور الاعتداءات الإسرائيلية المتوحشة فى جنين (ص39) .
فى صورة القرية ـ كما أسلفنا حميمية وتعاطف , رغبة فى استجلاء الجذور , جنين جارف للتواصل المفتقد , ينشر الموت جناحيه , وينشب مخالبه فيختطف الأحبة ويلقى بظلاله علينا فتتعمق المرارة . ويزداد الإحساس بالوحشية والوحدة , نحس بجذورنا وقد اقتلعت أو على الأقل تهرأت فنتباكي على الزمن الضائع والمودة المفتقدة .
وفى المدينة تصول الكاميرا وتجول كما يقولون . ترصد العديد من قصص الحب التي أسهب الراوي فيها , ولكنه حب يحمل الكثير من انعدام التواصل والخيبات المتلاحقة , علاقات مبتورة نادراً ما تكتمل . هل نحن بإزاء حلم يستعصي على التحقق ؟ هل نكتفي بالمحاولة نلعقها كذكرى ونضمها إلى رصيد إحباطاتنا ونلقي باللوم على انعدام التواصل , وبأننا نحيا فى زمن عصى يحيلنا جزراً منفصلة لا تلتقي ولا تلتئم ؟ هل نحن فى حالة بحث دائم عن حنان لن نوفره لنا امرأة واحدة فنحيا نجوب الأفاق ونطارد ـ كما يقول نزار قباني ـ خيط دخان . أم أننا نعجز عن الحب والتلاقي فى زمن الإحباطات المستمرة . والإحساس الدائم بالعجز والدونية حيث مصائرنا ترسم لنا ويخطط لها لمصالح قوى خفية تتلاعب بنا , وتحركنا كقطع الشطرنج الصماء . فى ظل الانكفاء على الذات والهزؤ والسخرية بكل عمل جاد ونبيل , كيف يتم التواصل وكيف يكون التلاقي ؟ كيف تذوب فى داخلي وأفنى عشقاً فى حناياك؟ وإذا كان الخارج متهرئاً فكيف نطمع فى أن يكون الداخل حميمياً ودافئاً وحنوناً ؟
انعدام التواصل فى قصص الحب عند البحراوي يأتي أذن تعبيراً صادقاً عن حالة اللا تواصل الخارجية . إنها رؤيا كاشفة لا تزيف ولا تدعى انسجاما بين ما لا ينسجم , ولا تؤلف بين عناصر هى بطبعتها عصية على التآلف. ومن هنا يتضح ومنذ الوهلة الاولى مقدار الهم والحزن الذي يسيطر على هذه اللوحات , إنها ليست علاقة خائبة بين رجل وامرأة , ولكنها خيباتنا جميعاً , وسقوطنا المدوي نتجرعه بمرارة ونتعايش معه , وإن لم نمتلك نبل الإعلان عنه والاعتراف به .
فإذا صح هذا التفسير ولم نكن فيه مغالين , فإن من حقنا أن نتساءل : وأين القرية من قصص الحب للراوي الكثير الحبيبات كما يقول عن نفسه (ص89) . بمعنى أخر أين قصص الحب فى القرية ؟ قصص الحب العديدة والتي تربو على خمس عشرة قصة تقع جميعها فى المدينة (مصرية أو عربية أو أجنبية). أما القرية التي تفتح فيها وعي الراوي , وتفتحت فيها أيضاً أحاسيسه الجنسية والتي وإن جوبهت بمحظورات دينية وأخلاقية واجتماعية , فإنها حتماً قد نشطت واتخذت فى التعبير عن نفسها مسارب متنوعة وأحياناً مبتكرة , وتعرفت على الجسد الأنثوي بصورة أو بأخرى بالواقع والممارسة أو على الأقل بالحلم والتخيل. ومؤكد أنه كانت هناك بنات أخوال وأعمام وأقارب وأحيانا خادمات يسعين للمساعدة فى أعمال الدار ولو لساعات .. هذا العالم الذي ـ يعج بالنساء ألم ترق إحداهن لتكون بطلة فى قصة حب لم يكتب لها حتى التواصل كباقي بطلات المدينة ؟ وكيف تسقط الذاكرة مثل هذا الحدث الفارق وسط أكوام نفايات الأحداث اليومية العادية والمكررة , رغم ما قد يحويه ذلك من دلالات قد تساعد فى الكشف عن بعض جوانب شخصية الراوي الذي يبدو شقياً بحبه , مطارداً بلعنة أزلية كمن كتب عليه أن يحرث البحر . وأى ألم هذا الذي يحتويه . لا الممتنعة تستهويه , ولا المستسلمة ترضيه , فأى جحيم هذا الذي يعيش فيه . هذا الإحباط الذي تعكسه أغلب هذه النصوص , كيف لنا ان نفسره بمنأى عن المناخ العام وعن حيرة المثقف بوجه خاص , ذلك المناخ الذي يبدو وكأنه قد آثر الانعزالية والاستسلام , واستهوته فكرة الجزر المتشظية والمتباعدة والانكفاء على الذات والتشرنق , والذي انعدم فيه التواصل أوكاد . حتى علاقات الحب بكل معانيها الإنسانية , وبريقها الوهاج , وقدرتها على الخلق والحياة , تستحيل مسخاً مشبوهاً يفتقد النبض والإحساس , وتتحول إلى متع عابرة لا تورث غير المزيد من الحيرة والخواء , مما يطعننا فى أعز ما نملك هويتنا وروحنا ويطمس فينا كل إحساس بالخير والمواطنة والحق والجمال . بهذا الفهم ترتفع نصوص البحراوي إلى ذرا إنسانية اية فى الرهافة والجمال . ولا يقلل من قيمتها وجود قلة من النصوص التي اكتفت بتصوير ذكرياتها الآنية والخاصة والتي عجزت عن أن تعكس معان أكثر عمومية , وأعمق فى مدلولاتها الشاملة والإنسانية .

فتحي عبد الحافظ
الثلاثاء 24 فبراير 2009