نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


مشاهدات أندريه جيد الحميمية في بسكرة الجزائرية




في الحلقة الاولى من هذه الترجمة لمشاهدات ويوميات أندريه جيد في تونس والجزائر التي ترجمها بأمانة للهدهد الكاتب التونسي حسونة المصباحي توقف الكاتب الفرنسي الكبير مطولا عند تونس بشمالها وجنوبها قبل أن يغذ السير باتجاه الجزائر حيث سحرته بسكرة برعاتها ورحالتها وموسيقاها ومع اعترافه بأن من يحب لابد أن يكون قد شرب من ماء المرارة سلبت لبه بسكرة بصحرائها التي تبدو فرحة رغم كل مظاهر القسوة في الطبيعة


يسكرة
أمس كنّا في البساتين. تتبعنا الممرّات التي تقودنا في البداية إلى "نمسيد" وإلى "باب الدرب". وصلنا إلى القلعة القديمة وعدنا من سيدي بركات". كانت الجولة طويلة و" EM… " أجهده ذلك. كان عثمان وفيدور روزانبارغ معنا. والعربي كان يرافقنا. شربنا القهوة عنذ مدخل "نمسيد"، أمام بطن الوادي، وجبال "الأوراس". لم أحبب قط شيئا كهذا المشهد الطبيعي بقدر ما أحببت الامتداد الغامض للصحراء في الناحية الأخرى. العربي يلعب معنا الدمينو، وهو غشّاش جدا، وظريف جدّا. أترقب جيمس بفارغ صبر لذيذ. الأرض تتكلم هنا لغة مختلفة، غير أني أفهمها الآن.
العام الماضي، كانت غرفتي في الطابق الأرضي. عندما تكون نافذتي مفتوحة، فإنني لا أكون مفصولا عن الخارج إلا بعلّو الدعامة. بقفزة واحدة، يمكننا أن نتجاوزها. صادق، الأخ الأكبر لعثمان، وبعض شيوخ بسكره، يأتون في أوقات رمضان ليستريحوا في غرفتي قبل العودة إلى قريتهم. كان لي تمر، وحلويات، وشراب السّكر، ومربّى. كان الوقت ليلا. كان صادق يعزف على القيثارة، ونحن نعرف كيف نظلّ صامتين لوقت طويل. في الليل، لا أغلق النوافذ. كل أصوات الخارج تدخل إلى غرفتي، وكل صباح توقظني قبل الفجر، فأذهب إلى حافة الصحراء، لكي أشاهد طلوع الشمس. في هذا الوقت، كان يمرّ قطيع لصيف، المكوّن من ماعز البؤساء من الناس. وهؤلاء الذين لا يملكون مرعى، يُوكلون إليه ماعزهم كل صباح. وهو يأخذه إلى الصحراء لكي يرعى. في كل فجر، هو يذهب لكي يطرق الأبواب. وكل باب ينفتح، ومنه يخرج بعض الماعز. وعند مغادرته القرية، يكون عنده منها أزيد من ستّين. معها يذهب بعيدا باتجاه الينبوع الحار حيث الجعفيل والفربيونيات . وكان هناك أيضا تيس كبير يأخذه معه، قال لي، عندما يكون الطريق متعبا، أو لكي لا يحسّ بالضّجر، أنه لا يحسن العزف على القيثارة. ذات صباح وقد انطلق بقطيعه دون المرور أمام نافذتي، ذهبت إلى الصحراء لكي التحق به. أحب الصحراء دون حدود. العام الأول، كنت أخشاها قليلا بسبب ريحها ورملها. ثم، في غياب كل هدف، نحن لم نعد نتوقف، وأنا كنت أتعب بسرعة. كنت أفضّل الطرقات الظليلة تحت النّخيل، وحدائق "الوردي"، والقرى. لكن في العام الماضي، قمت بجولات كبيرة. ولم يكن لي هدف آخر، غير أن أصبح بعيدا جدّا عن الواحة بحيث لن يكون بمقدروي أن أراها. كنت أمشي. كنت أمشي إلى أن أحسّ أنني وحيد في السهل وحدة لامتناهية. عندئذ أشْرَع في النظر. الرمال كانت لها تخميلات في الظل عند سفح كثبانها حيث تبقّت أثار حشرات. الحنظل كان يذبل، الخنافس كانت تركض، وكان هناك حفيف مدهش، من كل نَفَس، وبسبب الصّمت الهائل، كان بالإمكان أن نسمع أقلّ نأمة. أحيانا ينطلق إلى السماء نسْرٌ من ناحية الكثيب الكبير. وهذا الامتداد الرتيب كان يبدو لي يوما بعد آخر، أشد خداعا وتمويهًا.
كنت أعرف الرعاة الرحل. وكنت أذهب للقائهم، وأتحدث إليهم. البعض منهم يعزفون على القيثارة. أحيانا، أجلس طويلا بالقرب منهم دون أن أفعل شيئا. وكنت احمل معي دائما كتابا، غير أني لم أكن افتحه تقريبا. ولم أكن أعود في الغالب إلا في المساء. غير أن عثمان الذي كنت أحدّثه عن هذه الجولات يقول لي أنها ليست متحذّرة، وأن البدو الجوّالين يحرسون الأماكن القريبة من الواحات ويسلبون الأجانب الذين
لا يعرفون كيف يدافعون عن أنفسهم. ويمكن أن أكون أنا أيضا ضحية من ضحاياهم. ومنذ ذلك اليوم،
أراد أن يرافقني. ولكن بما أنه لم يكن يحب أن يمشي، فإن جولاتي أصحبت أقلّ طولا، ثم توقّفت.

عثمان يقرأ مثل "بوفار" ويكتب مثل "بوكيشيه" . هو يعلّم نفسه باذلا كل جهوده، وينسخ كل شيء. وهو يفضّل "فرح ماغلون" لهارولد على "المحاولة العاشقة". وهو يجد "محاولتي" مكتوبة بشكل سيء. وكان يقول لي:" أنت تستعمل بكثرة كلمة " HERBE". أعطيته "ألف ليلة وليلة". ذات مساء حمل الكتاب إلى "برج بو لاخراس" حيث ينام، لكي يقرأه مع صديقه. وفي اليوم التالي لم يأت إلاّ في الساعة العاشرة وهو لا يزال مثقل العينين بالنوم. هو وصديقه قرآ قصة "علا الدين والمصباح السحري" حتى الثانية صباحا. ويضيف قائلا: آه .... لقد أمضينا سهرة ليلية رائعة". و"ليلية" تعني بالنسبة له السّهر.
في نهاية الواحة، على الأطلال القاحلة للقلعة القديمة التي نمّر بالقرب منها، في تلك الليلة المكتملة القمر، يتبادل الحديث عرب يرتدون لباسا أبيض، وممددون على الأرض، بأصوات خافتة. وأحدهم يعزف على القيثارة عزفا خفيفا:" سيمضون الليل يروون حكايات لبعضهم البعض" يقول لي عثمان. في الصيف، هم لا يجرؤون على أن يتمدّدوا هكذا على الأرض. العقارب والأفاعي ذوات القرون، المتخفيّة طوال النهار في الرمل، تخرج وتشرع في الطواف عندما يحلّ الليل. بعيدا، نترك السيّارة. لم يعد هناك نخيل. الليل يبدو وكأنه يزيد في مساحة الصحراء الممتلئة حتى الضفاف بأضواء زرقاء. حتى جيمس سكت. وفجأة، مأخوذا بغنائية، يتخلّى عثمان عن برنسه، يعدّل غندورته، ويستدير على نفسه في ضوء القمر.
عثمان وجد ما لست أدري من "السير المقارنة" . والآن، بشأن الإبل، هو يستشهد بـ "بوفون"
أو بـ"كوفييه" . ولا يتحدث أبدا عن الصداقة دون أن يذكر "هنري الرابع" و"سولي" ، وعن الشجاعة دون أن يحيلنا إلى "بايار" وعن "الدب الكبير" دون ذكر "غاليلي" وهو يكتب لـ "ديغا" مرسلا له عكازا من سعف النّخيل. ويقول له:" ما يعجبني هو أنك لا تحبّ اليهود، وأنك تقرأ "الكلمة الحرّة" وأنك تجد مثلي أن "بوسان" رسّام فرنسي كبير.
جيمس يتسلّى بأن يقرأ له هذه الأبيات التي يرتجلها وهو ينتظر السيارة التي سوف تقلّنا إلى "دروح" :
صديقي العزيز عثمان،
الأشجار التي لها لوز،
التين والواحات فلكي
يجلس الانسان تحتها عندما يكون التّعب شديدا.

نحن نظل دونما حراك
مغمضين عيوننا.
نحن سعداء وكسالى.
الحديقة، نسمع تحتها
الماء الصافي الذي يغنّي
مثل امرأة بدوية

نحن هنا مرتاحون أن نكون كسالى
مغمضين عيوننا كما لو أننا ننام
نحن مرتاحون، عثمان
في الكسل الكبير حتى أننا
نتعمّد أننا ميّتون.

منذ أن وصل جيمس، يقضي عثمان النهار والليل وهو ينظم أبياتا. وما يهمه بالخصوص هو أن تكون القافية ثريّة جدّا. وهو يذهب في ذلك حتى التورية. أحيانا ينظم أبياتا جميلة
تحت النّخيل، ليس هناك حفلات موسيقية …
وأيضا:
… الذي يعرف الحب لا بدّ أن يكون شرب من الماء المرّ
والوقت لا يهمّه أبدا
هو يقرأ دائما وبمثابرة "ألف ليلة وليلة"، ويحفظ عن ظهر قلب قصة علاء الدين ويمضي الآن رسائله كالتالي:"عثمان أو المصباح السحري".

أعطاني جيمس عكازه. هو من الحديد، وهو من "الجزر". وهو يسلّي الأطفال هنا ذلك أن رأسه يشبه رأس السلوقي. وهو أملس مثل اليشب، ومع ذلك هو خشن حتى أنّه باستطاعتنا أن نقول أن السكين استعمل في صنعه. لم أر شيئا غريبا مثله. عليه، أبيات مكتوبة بأحرف غليظه، بينها هذه الأبيات العذبة:
سنجاب كانت له زهرة في فمه،
والحمار نعته بالمجنون.
وهذه الأبيات التي يجعلها في مقدمة رسائله:
نحله نغْـفُْو في خلنجات قلبي
توقورت 7 أفريل/ نيسان:
اليوم يقع توسيم حافر آبار عربي.
قبل شركات الحفر والآبار الارتوازية، كان للعرب حفّاروا آبار. لابدّ أحيانا من البحث عن الماء المتدفّق سبعين وحتى ثمانين مترا تحت الأرض. وثمة رجال ينزلون إلى الأعماق. وقد درّبوا على هذه المهنة الشاقة وهم صغار السنّ، غير أن الكثيرين منهم يموتون بسبب ذلك. لابدّ من تجاوز ثلاث طبقات من الأرض، وطبقتين من الماء: الأولى راكدة، الثانية صاعدة بكل بساطة، للوصول إلى هذه الطبقة الأخيرة المتدفقة في نهاية الأمر. الماء ينبجس أحيانا صافيا بشكل رائع، وبغزارة، لكنه مثقل دائما تقريبا بكوربونات الصوديوم وبأكسيد المغنيسيوم. والجهد الذي يبذله حفارو الآبار هؤلاء للعمل تحت الماء لا يمكن تصوّره. وحافر الآبار هذا الذي سيتمّ توسيمه كان الأكثر شجاعة، يقولون.
ويتمثل الأمر في ابتكار بئر، ورواق، وسط الماء، حيث الماء لا يدخل، وفيه يتمّ العمل، والمزيد من الحفر، وهذا لمرتين اثنتين، عبر هاتين الطبقتين المائيتين، وإقامة مجرى للماء الصافي الذي عليه أن ينطلق عبر الماء الرّاكد، دن أن يتلوّث بسبب ملامسته له.
في اليوم ذاته، في واحد من الآبار المربّعة الزوايا، والمشكّلة من جذوع النّخيل، رأينا رجلا ينزل، مشدودا إلى حبل، سبعين مترا تحت الأرض لكي يصلح عطبا.
إذن، وقع توسيم حفار الآبار العربي، وفي المساء أصبح مجنونا.

طبقة الماء الراكدة في توقورت تطفو تقريبا. لم تعد تلك المياه الجميلة والمتدفقة في "شتمه"، أو تلك القنوات المتحركة في "بسكرة" وإنما هي قنوات آسنة، نتنة، مليئة بالأعشاب القذرة. غدير يخترق مع ذلك الواحة، مقسوما بحكمة لسقي سعف النّخيل. في القعر، خلل الأعشاب، تنساب ثعابين من الماء.

الواحة محاطة بالرّمال. أمس، أثارتها عاصفة مفزعة. الأفق بدا وكأنه ينسحب باتجاهنا مثل غطاء نسحبه على جسدنا. بالكاد نرى، وبالكاد نتنفّس.

هناك، غير بعيد عن المدينة، مقبرة بائسة يداهمها الرمل ببطء. بالكاد نحن نميّز بعض القبور. في الصحراء، فكرة الموت تلاحقنا. وشيء مثير للإعجاب، هي ليست حزينة في "بسكرة"، خلف القلعة القديمة، في قلب الواحة نفسها، ثلّمت الأمطار المقبرة القديمة، وبما أن الموتى مدفونون مباشرة تحت الأرض، فإن العظام المفكوكة أكثر وفرة من الأحجار.

تواصلت العاصفة الرهيبة حتى المساء. عند غروب الشمس، صعدنا إلى المئذنة. السماء كانت بلون الرّماد، وأشجار النّخيل كانت باهتة، والمدينة أردوازية اللّون. ريح هائلة كانت تأتي من الشرق مثل عصْف من اللعنة الإلهية أنبأ عنه الرسل. وفي هذا الخراب، رأينا قافلة تبتعد.
"اولاد" يرقصن هنا أفضل من بسكرة. هنّ أجمل. بل إنني لم أرهن يرقصن جيّدا إلاّ هنا. عدنا إلى هنا، ليس سائمين لهذا الرقص الوقور والمتثاقل، والذي يكاد يكون معتمدا فقط على الأذرعة والمعاصم، والمحتشم. عدنا مدّوخين، مرهقين تقريبا من هذه الموسيقى العنيدة، السريعة، الهاربة، المسكرة، التي تأخذ إلى الانخطاف والنشوة، والتي لا تصمت عندما نغادرها، والتي تلاحقني إلى حدّ هذا الوقت، في بعض المساءات، بنفس الطريقة التي تلاحقني بها الصّحراء.
هذه الليلة، وددت لو قضّيتها في الساحة التي تعسكر فيها القوافل. نيران العلّيق وأشواك الغابات تحيي اللّيل ساهرة. حولها، أعراب يتبادلون الحديث بصوت خافت. آخرون يغنّون. غنّوا طوال الليل.

روى لي عثمان قصة زوجة اوريّا الحثّي :
وحسب التراث العربي، ملاحقا حمامة من ذهب من قاعة إلى قاعة، في قصره، عندما بلغ دافيد الذي يسمّيه هو داوود، ذلك السطح الأعلى الذي من خلاله يمكن أن نرى بتشابع .
ويروي عثمان القصة قائلا:" اليهودي قال له أن موسى كان على حق، وأنّ الله سيأتي له باليهود أوّلا، ثم بالعرب، وربما أيضا بالمسيحيين. ويقول المسيحي أن المسيح كان على حق، وأن الله سيأخذ إليه المسيحيين، وأيضا العرب وحتى اليهود. ويقول العربي أن محمدا كان على حق وأن الله سيدخل إلى جنّته العرب، غير أنه سيغلق أبوابها أمام اليهود والمسيحيين الذين لم يسلموا. وعندما استمع إلى الثلاثة، عجل بأن يصبح مسلما…" المسيحيون لهم حقّ الأقدمية على المسلمين بالأسبقيّة، الذين يقولون، ويروق لهم أن يقولوا لي أن المسيحي إذا ما نطق بالشهادة: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله" فإنه يدخل إلى الجنّة قبل العربي…" الروم، يقولون، أعلى منّا شأنا في كثير من الأشياء، غير أنهم يخافون من الموت دائما".
-------------------------------------------------
الصورة :لوحة للفنان الفرنسي ماتيس الذي خلد نساء بسكرة في عدة لوحات

اندريه جيد -ترجمة حسونة المصباحي
السبت 21 فبراير 2009