أججت تداعيات المجزرة الجدل المستعرّ حول علاقة الطائفة العلوية بالنظام، عبر تحميل مسؤولية المجزرة لثقافة حاكمة ضمن تلك الطائفة، واعتبار الحكم الحالي طائفيا، واستقبل هذا الطرح، من معارضين من أصول طائفية متعددة، بمقارنات تدور حول علاقة التنظيمات الجهادية المتطرفة، خصوصا تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف بداعش)، بالحاضنة السنّية.
لخّص السوري محمد صالح، الجدل بالقول: “كل السنة بيئة حاضنة للدواعش مع تسليط الضوء على عمل الدواعش الوحشي. كل العلوية شبيحة للنظام القائم مع تسليط الضوء على الأعمال الوحشية للشبيحة”، بمعنى أنه عندما يحصل عمل وحشيّ من “الشبيحة” العلويين، يصبح العلويون في نظر خصومهم شبيحة كلهم، وعندما يحصل عمل وحشي من “الدواعش”، يصبح السنّة كلهم، في رأي خصومهم، دواعش. لكن السؤال هو، هل يحصل هذا التعميم عند ظهور أعمال وحشيّة؟ أم أنه تعميم غالب على رأي السنّة، في عمومهم، في العلويين، ورأي العلويين، في عمومهم، في السنّة، وكيف تظهّرت هذه الأفكار في سجالات السوريين؟
“ثقافة الأغلبية” سبب نشوء الاستبداد؟
يعرض الكاتب السوري سمير سليمان، عدة مقاربات للمسألة، فيتحدث عن مصادفته كثيرين كانوا مثل أمجد يوسف، “ينتظرون الفرصة لإثبات وجودهم “بقتل آخرين مختلفين وضعفاء”، بمن فيهم “أمهات نذرن أولادهن لقتل آخرين”، معتبرا إياهم “الحثالة التي رأت في مناخ الثورة فرصتها في التماهي مع روح الإبادة التي أعلنها نظام الأسد ضد السوريين”، ومستنتجا أن القاتل “نموذج لشريحة واسعة تعيش بيننا منذ نصف قرن”، وأن أمثاله موجودون بين معارضي النظام أيضا.
يوضح سليمان، لاحقا، أن يوسف، “لم يرتكب مجزرته لأنه علوي، رغم أن “علويته” لا تنفصل عن جريمته، والداعشي النمطي، لا يرتكب جريمته لأنه سني رغم أن “سنيّته” لا تنفصل عن جريمته”، فالانتماء الطائفي لا يشكل بمفرده سببا لارتكاب الجريمة، وإلا لصار كل علوي أو سنّي قاتلا “عندما تسنح له الفرصة”، لكن سليمان، كتب في رأي لاحق، أن الأقليات السياسية، كالعلوية والدرزية والمارونية “وكل أشكال العشائرية السياسية، إنما خلقت على أرضية السنية السياسية وحاجتها إلى تسييس الطوائف”.
يجري في هذا الطروحات تأرجح بين الفرضية السياسية – الاجتماعية التي تربط الأحداث ذات الطبيعة الثقافية (الطائفية، المذهبية، العشائرية إلخ) بحيثيّات الواقع السياسي والاجتماعي (وهو في الحالة السورية، نشوء نظام استبداديّ)، والفرضية الشائعة الأخرى، التي تحيل الوقائع السياسية – الاجتماعية إلى الثقافة (تحت مسميات مثل “الإسلام السياسي” أو “ثقافة الأغلبية”)، بحيث تكون ثقافة الأقليات الطائفية (والاستبداد؟) رد فعل على ثقافة الأغلبية.
في المقابل، يرى الكاتب السوري محمد منصور، أن من يقارنون بين النظام و”الدولة الإسلامية” يشبّهون “ما يفترض أنه حكم دولة لها ممثل في الأمم المتحدة، بحكم تنظيم مارق لا وطن له، ولا قيمة قانونية لسلطته”، وهو ما يعتبره اعترافا بأن “السلطة العلوية التي أسسها حافظ الأسد ليست حكم دولة” وأنها في جوهرها “تنظيم طائفي إرهابي استولى على الدولة واستمر بالحكم بالقوة وأقام سلطته بالقتل والمجازر ونشر الإرهاب”، وبالتالي “فلا سبيل للدفاع عن جرائمه إلا بمقارنته بأفعال تنظيم إرهابي مثله”.
من ضابط أمن إلى متصوّف زاهد
يؤكد منصور إن هدف المجازر هو “البقاء في السلطة”، لكنه يرى أن شكل البقاء في السلطة الذي يريده النظام هو طائفي: “يريدونها سلطة طائفة يضعها النظام وتضع نفسها فوق كل المكونات الأخرى في الامتيازات والوظائف والبعثات والوساطات و”حق” ارتكاب الجرائم”، وإن الطائفة “لا تريد أن تتعايش مع أي مكون آخر إلا اذا كان لها الغلبة والسيطرة على أجهزة الأمن والجيش والقضاء والإعلام والسفارات وسلاح الطيران والبراميل والكيميائي”، لكنه يؤكد أن الحل “ليس القتل والانتقام وممارسة السلوك الذي سلكه المجرمون”، وأنه “يبدأ بتشخيص المرض كما هو”.
يظهر محمد تركي الربيعو، تعقيد هذه الرابطة بين العلويين والسلطة، مشيرا إلى أنه لا يمكن تفسيرها في سياقات ثقافية وحسب لأن “الترابط الهوياتي لم يكن ناجما عن خوف طائفي، بل أيضا عن ظهور محفزات جديدة للتماسك”، وأن ما يحكم “الترابط والاستقرار” في النهاية بين الطرفين “هي الآليات التنظيمية والأيديولوجية لأجهزة الدولة القائمة”، كما يشير إلى منظومات رمزية تنشأ وتقوم بتغذية خطاب الانقسام الهوياتي (كوضع صور القتلى على القبور وتحويل المقابر لمزارات يحج الناس لها)، كما تؤثر في هذا العالم القرابة والانتماء لمؤسسات السلطة وظروف القتال اليومي وسقوط قتلى، بحيث تتحول “العوامل الأيديولوجية آلية قوية للغاية بمقدورها أن تتحول بسرعة إلى أيديولوجية عدائية وفتاكة”، منبها، في هذا الخصوص، إلى مجازر ارتكبتها تنظيمات سلفية سنية ضد علويين.
تقول رشا عمران، إن عائلة أمجد يوسف “اختلط لديها مفهوم الوطن بالطائفة”، وأن أسرا كثيرة مشابهة لأسرة يوسف وآباء مثل أبيه “تحولوا بعد انتهاء خدمتهم العسكرية والأمنية إلى رجال دين لطوائفهم أو زهادا أو متصوفة”، “يعيشون حياتهم كما لو أنهم لم يفعلوا شيئا، إذ هذا أيضا شأن باطني، لم يكن يسمح بالحديث عنه”. يرد الوصف الآنف في معرض الاستنكار، لكنّه، يشير، من جهة أخرى، إلى نمط آخر من التحوّل، ينتقل فيه ضابط الجيش والأمن العلوي، من الخدمة العسكرية – الأمنية (ومستتبعاتها القمعية)، إلى الدينيّ الرمزيّ وحتى الصوفيّ (وبالعكس طبعا).
يلاحظ في مجمل سجالات السوريين حول علاقة النظام السياسي القائم بالطائفية اختلافا عن أقرانهم في بلدان أخرى، فالموضوع ما زال أقرب للمحرّمات، والخوض فيه يؤدي، تلقائيا إلى ارتفاع منسوب التوتّر والاتهامات.
أحد أسباب هذا التوتّر بين المثقفين السوريين، وهذا الحرج من فتح هذا السجال بطرق سياسية واضحة، في اعتقادي، وجود تقليد سوري، كرسته السلطات، التي تعمل على تأكيد الطائفية في الواقع المعاش، وحظرها، في الوقت نفسه، من النقاش الصريح بعنف، على عكس حالة سلطات أخرى ونخب أخرى.
تطييف السياسة الهائل في سوريا يتم مع شغل لا يقل هولا لإنكاره وتقنيعه وتصريفه بمصطلحات أخرى، من الوحدة والاشتراكية المأسوف على شبابهما، وصولا إلى أحاديث السيادة والممانعة ومواجهة الإمبريالية.
في الوقت الذي يحظر الحديث عن استحكام الطائفية في سوريا، تتحدث فيه مستشارة للأسد عن “خطف أطفال علويين” وتعريضهم للإبادة في الهجوم على الغوطة (المنطقة السنية المعارضة)، ويتحدث وزير خارجية راحل عن الهجوم على جوبر والغوطة (السنيتين) لحماية جرمانا وباب توما (الدرزية والمسيحية)، أما في الحالة الإسرائيلية، فتشتغل الأحزاب السياسية على إعلان “يهودية الدولة”، ولا يجد محازبو “حزب الله” وحركة “أمل” في لبنان شعارا سياسيا يرفعونه علنا غير “شيعة شيعة”، أما في سوريا، فتجري المجازر تحت راية “الوحدة الوطنية”، وبعد اكتشاف المجزرة، لا يرى أنصار النظام حرجا في إعلان مرتكبها “بطلا وطنيا”.
----------
القدس العربي