وحين طرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مبادرته، انطلق من هذه الثابتة المحدّثة والمطوّرة، إذ كان يرجو أن تنتهج القيادات اللبنانية نهج حكماء روما، فتتنازل عن صلاحياتها التي يعطّل بعضها البعض الآخر، لمصلحة "حكومة مهمة" تتشكّل من شخصيات معروفة بنزاهتها وتجرّدها وعلمها وخبرتها وشجاعتها، من أجل إخراج البلاد من الحفرة العميقة التي وقعت فيها.
ولكنّ "فرادة" لبنان أفشلت كل النظريات، لا بل دفعت ماكرون نفسه الى التشكيك بجدوى مبادرته، فتنازل عن "خطّها المستقيم" وسوّق لـ"حكومة معقولة"، حيث يختار المنتسبون الى ما يسمّيه هو بـ"حلف الفاسدين والترهيبيين"، كلّ وفق موقعه ومقدرته، من يحكمون هم عليهم بأنّهم يتمتعون بـ"نبل المواصفات".
في هذه اللحظة بالذات سقطت المبادرة الفرنسية. لم تسقط لأنّها أعادت صراع الأحجام الى الساحة السياسية فحسب، بل لأنّها أعطت أيضاً حق اختيار العمالقة للأقزام، والعلماء للجهلة، والنبلاء للسفهاء، والمنقذين للتدميريين، والإصلاحيين للفاسدين، والحياديين للمرتهنين.
إنّ المبادرة الفرنسية لن تعوّم، مهما كانت نيات ماكرون إيجابية، فهي فقدت روحيتها التي كانت تهدف الى التوفيق بين طبقة سياسية تناضل لاستمرارها وبين شارع يصارع لاستئصالها.
وخلافاً لما يتم الترويج له، هنا وهناك، عن جهل أو عن عمد، لم تزوّد الرئاسة الفرنسية نفسها بأيّ أدوات ضغط على القيادات اللبنانية لدفعها الى الإسراع في تشكيل الحكومة، فهي كسّرت "العصي" التي لا تعتبرها ناجعة، وأكثرت من "الجَزر" الذي تكرهه الطبقة السياسية اللبنانية، لأنّه "يقوّي النظر".
والقيادات اللبنانية لا تريد أن "تقوّي نظرها"، لأنّها إن فعلت أدركت أن خلاص البلاد يستحيل أن يتحقق باستمراريتها، لأنّ الأزمة عملاقة وهي مكوّنة من ...أقزام.
ولأنّ بُعد النظر ممنوع، تكثر المفارقات العجيبة المحدثة للدمار في لبنان.
لنجُلْ على هذه المفارقات بسرعة:
1- أيّ رئيس للجمهورية في العالم تعيش بلاده في الجحيم الذي تعيش فيه يمكن أن يسمح لـ"أزلامه" بأن ينادوا بالتمديد لولايته التي فاقمت الكوارث، غير الرئيس اللبناني؟
2- أيّ طبقة سياسية تتناحر على الحصص والأحجام فيما بلادها تنهار، غير الطبقة السياسية اللبنانية التي سبق أن صنعت بنفسها هذا الانهيار؟
3- في أيّ بلد في العالم، بعد أن يكون المطلب الشعبي العارم الذهاب الى انتخابات نيابية مبكرة، يبدأ التلويح بتمديد ولاية مجلس النواب، إلّا في لبنان؟
4- في أي بلد في العالم تحوّل مقاومة الاحتلال نفسها الى قوة دفاع، ويتم تصديرها الى الخارج لتلعب أدواراً حربية ضد أنظمة هنا ولمصلحة أنظمة هناك، إلّا في لبنان؟
5- في أيّ دولة في العالم يعتبر الفقير إذا صرخ ألماً وغضباً متآمراً، إلّا في لبنان؟
6- أيّ سياسي في العالم يمكن أن يشتمه رئيس فرنسا فيعود ويتودّد إليه غير سياسيي لبنان؟
هذه عيّنة من لائحة طويلة عن الطبقة السياسية اللبنانية المتكافلة والمتضامنة.
مع مثل هؤلاء الذين أثاروا اشمئزاز غالبية قادة العالم، لا يمكن لعاقل أن يفكّر بإمكان الإنقاذ، ولذلك فإنّ أكثر التوقعات تفاؤلاً هي سوداء كالحة.
مع مثل هؤلاء، يتحوّل الاستياء الشعبي، شيئاً فشيئاً، إلى غضب جارف وحارق. وما حصل في طرابلس، ليس سوى نموذج من الآتي الى معظم المدن اللبنانية، لأنّ أصوات "الحكماء" - هذا إذا كانوا فعلاً كذلك - لا تصل إلى نفوس قلقة والى بطون جائعة وإلى عائلات تائهة.
ماكرون يظن أنّ نموذج طرابلس سوف يعلّم القيادات اللبنانية ما علّمته إياه "السترات الصفراء"، فتتنازل عن عنادها حتى تحتوي الشارع.
خطأ ماكرون أنّه ينظر الى سياسيي لبنان مثل نظرته الى نفسه. هو يخشى الناس الذين أدخلوه الى قصر الإليزيه ويطلب رضاهم، في حين أنّ هؤلاء يريدون إخافة الناس الذي تسلّطوا عليهم بسطوة السلاح هنا، وبقوة الغريزة الطائفية هناك، وبعصف العاطفة الوراثية هنالك.
ما يجهله ماكرون الذي يحمل على كتفيه "اتفاقية باريس للمناخ" الهادفة الى إنقاذ الأجيال القادمة من السياسات البيئية المدمّرة لكوكب الأرض، أنّ شعار أغلب مكوّنات الطبقة السياسية الحاكمة هو "أنا ومن بعدي الطوفان".
--------
النهار العربي
--------
النهار العربي