نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


أمريكا ترامب ليست أقل منه عماء






الجزء الأول من تغريدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سار هكذا: «لم تكن علاقات الولايات المتحدة مع روسيا أسوأ حالاً مما هي عليه اليوم»؛ وكان المنطق المألوف يفيد بأنّ ترامب سوف يلقي بالمسؤولية على عاتق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لولا أن الجزء الثاني اتخذ المسار الأكثر إثارة للعجب: «وذلك بفضل سنوات عديدة من حماقة الولايات المتحدة وغبائها». ومَن الأجدر بإعادة تغريد هذا النص الفريد سوى وزارة الخارجية الروسية، التي أضافت: «نحن متفقون»!


  للمرء أن يدع جانباً ما تفوّه به ترامب، خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع بوتين في أعقاب قمة هلسنكي، لجهة تنزيه المخابرات الروسية عن التلاعب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، أو «تهكير» الرسائل الإلكترونية لإدارة الحزب الديمقراطي وحملة هيلاري كلنتون. هذه تراجع عنها ترامب سريعاً، بعد أن تعالت في الكونغرس أصوات تتهمه بالخيانة والاصطفاف مع المخابرات الروسية ضد المخابرات الأمريكية. المشكلة، أعلن ترامب، أنه أساء استخدام مفردة واحدة يتيمة، فنطق بـ Would بدل Wouldn’t؛ وها أنه يتراجع عن الأولى ويتمسك بالثانية. أكثر من هذا، ها أنه يعود في واشنطن إلى اتهام المخابرات الروسية بما نزهها عنه في هلسنكي، بل يتهم بوتين شخصياً لأنّ الأخير يدير البلد وهو بالتالي يتحمل مسؤولية ما يجري فيه.
المشكلة لا تكمن في ترامب نفسه فقط، أو أنّ هذا التراجع الركيك المفضوح، الأقرب إلى عذر أقبح من ذنب؛ إذ أنّ تاريخ هذا الرئيس الأمريكي حافل بالعجائب حتى قبل أن يتمّ سنتين على ولايته. آخر طرائفه أنه لم يكن يميز بين «إنكلترا» و«بريطانيا العظمى» و«المملكة المتحدة»، وكان يظن أنه غادر هذه الأخيرة حين قصد اسكتلندا ليلعب الغولف على ملاعب منتجعه الفاره في أيرشاير. «لماذا لا تكتفون باسم انكلترا، أنا أحبه»، باح ترامب بتفضيله هذا لمراسل «ديلي ميل» البريطانية، الذي أصيب بالذهول لأنّ رئيس القوة الكونية والنووية الأولى في العالم، والقادم لتوه من زيارة المملكة المتحدة، يجهل الفارق بين مسميات بلد يحدث أنه الطرف الثاني في «العلاقة الخاصة» مع الولايات المتحدة.
المشكلة، في المقابل، يجدر أن تبدأ من ذلك الناخب الأمريكي الذي منح ترامب الرئاسة، وما يزال يغفر له الحماقة تلو الحماقة، بل يمنحه فضيلة الشك، ويختلق له الأعذار، ويصرّ على أنه جدير بالمهمة الرئاسية، ويتولاها على أحسن وجه. 42٪ من الأمريكيين راضون عن رئاسة ترامب، وفي الصف الجمهوري ترتفع هذه النسبة إلى 71٪؛ وهذا بعد تصريحات هلسنكي، ثم التراجع عنها، وبعد الاتهامات التي تراكمت ضدّ ترامب من جانب أعضاء الكونغرس الجمهوريين أنفسهم (بمن فيهم نوت غنغرش، الذي لم يخف يوماً انحيازه المطلق لشخص ترامب ولرئاسته). فماذا يمكن أن يقول أحد هؤلاء الأوفياء، تعليقاً على حكاية تصديق الرئيس الأمريكي للمخابرات الروسية، مقابل تكذيب المخابرات الأمريكية؟ «إنه ليس سياسياً»، هذه هي الإجابة المثلى، التي يُراد منها الإطراء وليس الذمّ!
وبهذا المعنى فإنّ ناخب ترامب، الذي يمثل شريحة معيارية في المجتمع الأمريكي، لم يهبط من مجرّة خارج أرض البشر، ولم تبتكره ظاهرة ترامب التي لاح للبعض أنها مفاجئة واستثنائية في الحياة السياسية الأمريكية. وكلما ارتكب الرئيس الأمريكي الخامس والأربعون حماقة ما (كما فعل في هلسنكي، أحدث مآثره)، أو عربد على البشرية شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً (ابتداءً بالانسحاب من اتفاقية المناخ، مروراً بعدم تجديد الاتفاقية النووية مع إيران، وصولاً إلى الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي…)؛ الواجب، في جميع هذه الحالات وما يماثلها، يقتضي استذكار ما ذكّرنا به موريس بيرمان عند انتخاب ترامب: ليس الأمر طارئاً، بل إنّ السوابق كثيرة، وبعضها أدهى.
كان «خبراء» المجتمع الأمريكي، الذين يُعتبرون «ثقاة» الرأي الصائب في شؤون الانتخابات الرئاسية الأمريكية، قد استبعدوا تماماً إمكانية انتخاب ريشارد نكسون؛ لكنه انتُخب بالفعل، ولم يتضح البتة أنه أقلّ من ترامب من حيث الحماقة والعربدة، داخل أمريكا وخارجها (لم تكن فضيحة «ووترغيت» أفظع الفظائع، للتذكير المفيد). ثمّ قيل إنّ هذا الكاوبوي، الممثل من الدرجة الثانية، رونالد ريغان، يستحيل أن يصعد إلى الهرم الأعلى في هذه القوة النووية التي تتزعم القوى العظمى؛ لكنه فاز بالرئاسة، وأطلق «حرب النجوم» وكأنّ العالم محض ستوديو في هوليوود، ينتج شريطاً رديئاً من صنف الخيال العلمي. وحين يصل إلى انتخاب ترامب، فإنّ بيرمان لا يتردد في اعتباره «اللهاث الأخير» لهذا البلد: السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية الرومانية أنتجت أباطرة كانوا بمثابة «نكات رديئة»، بمن فيهم الحمقى والصبية؛ وهذا ما وصلت إليه أمريكا مع الشخصية الكرتونية، ترامب، الذي سيترأس القوة الكونية الأعظم، بلا تجربة سياسية، ولا مواصفات إنسانية؛ والذي، في المقابل، يتوّج 400 سنة من «التناطح الخشن» بين حزب وآخر، و«عقيدة» جيو ـ سياسية وأخرى، ورئيس وسَلَفه/ خَلَفه!
وبيرمان، تقتضي الإشارة، هو أحد كبار المؤرخين الثقافيين المعاصرين في أمريكا، وقد أصدر اثنين من أخطر المؤلفات حول المأزق الشامل الذي تعيشه الولايات المتحدة: «عصور الظلام في أمريكا: الطور الأخير من الإمبراطورية»، 2006؛ وقبله «أفول الثقافة الأمريكية»، 2000. وحين فاز جورج بوش الابن بالرئاسة، وانتُخب لولاية ثانية، ساجل بيرمان بأنّ الحضارة الأمريكية أخذت تحثّ الخطى من طور الأفول (موضوع كتابه الأول)، إلى عصر الظلام الفعلي (كما استشرف في كتابه الثاني). وليس انكبابه على الإحالة إلى مصائر مشابهة واجهتها الإمبراطورية الرومانية، إلا إعادة تصديق على ما انتهى إليه المؤرّخ البريطاني البارز شارلز فريمان، في كتابه الرائد «إنغلاق الذهن الغربي».
وفي يوم تنصيب ترامب نشرت وكالة «أسوشيتد برس» تعليقاً «نبوئياً»، كتبه دان بيري وبرادلي كلابر، جاء فيه أنّ سوريا قد تكون أبكر ميادين تراجع أمريكا عن مبدأ إشاعة الديمقراطية ومساندة دولة القانون؛ بالنظر إلى ما أثاره ترامب من إمكانية الشراكة مع روسيا بوتين، والتلويح أيضاً باحتمال غضّ النظر عن نظام بشار الأسد في مسألة الكفاح ضدّ الإرهاب والعدو المشترك الذي تمثّله «داعش». ومع أنّ الأيام تواصل إثبات تلك النبوءة، فقد تغافل كاتبا التقرير عن حقيقة أنّ ذلك المبدأ كان زائفاً في الأصل، هكذا بدأ وهكذا يتواصل؛ لأنّ ترامب لا يقوم بما هو أكثر من إعادة تدوير سياسة أوباما في سوريا، صراحة هذه المرّة، وليس عن طريق الألعاب الدبلوماسية.
ليس مدهشاً، والحال هذه، أن يغرق الإعلام الأمريكي في اجترار الفارق بين الـ Would والـ Wouldn’t، وأن يجاريه قسط غير قليل من الإعلام العالمي؛ مقابل التجاهل المريع الذي تُقابل به الملفات الكبرى التي استغرقت حوار الساعتين بين ترامب وبوتين، والتي لم يكن من شاهد عليها سوى المترجمين. ماذا عن «التعاون» الذي بشّر به ترامب بين واشنطن وموسكو في سوريا، وهل ما يتردد من حديث حول «الصفقة العظمى» صحيح، جزئياً أو كلياً؟ وإذا كان مصير الشعب السوري لا يحظى بالكثير من اهتمام الرئيسين، أفلم يعلن رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو أنّ أمن إسرائيل على رأس جدول أعمال قمة هلسنكي؟ بل ماذا عن خفض الترسانة النووية بين البلدين؟ ماذا عن أوكرانيا والقرم؟ ولماذا تتعالى الأصوات في الكونغرس مطالبة بإصدار أمر قضائي يبيح الاطلاع على تدوينات المترجمَين أثناء الجلسة المغلقة؟
أسئلة، وسواها كثير، ليست معلقة في ذمة ترامب وحده، بل في هذه الـ«أمريكا» التي انتخبته، وتواصل البرهنة على أنها ليست البتة أقلّ منه عماءً!
------------
القدس العربي

صبحي حديدي
الجمعة 20 يوليوز 2018