تؤكد الكاتبة والناشطة السياسية، هناء درويش، الحاجة الملحة لتحقيق السلم الأهلي في سوريا اليوم، وتقول لـ "ألترا سوريا" إن السلم الأهلي ليس شعارًا سياسيًا ولا حالة مؤقتة، تنتهي بانتهاء الحرب، بل هو حاجة يومية لاستمرار الحياة وترميم ما تصدع من العلاقات بين الناس، بفعل الحرب والنزاع، إذ تنكشف هشاشة المجتمعات، جراء النزاعات والأزمات، ما لم يكن بينها رابط معنوي، يحميها من التفكك، ويتمثل هذا الرابط في السلم الأهلي.
وتضيف درويش أن الرابط المعنوي، المتمثل في السلم الأهلي، هو الأداة التي تمنع تحول العنف إلى ثقافة، ويسمح للناس بإعادة تعريف أنفسهم خارج منطق الضحية والجلاد، مؤكدة أن السلم الأهلي ضرورة ملحة؛ لضمان نجاح أي مشروع إعمار، أو تطبيق أي قانون، أو ترسيخ المعنى الحقيقي للمجتمع، حيث لا يشعر الأفراد أنهم مجرد تجمع.
أسباب هشاشة السلم الأهلي في سوريا
وعن تهاوي السلم الأهلي في سوريا، توضح درويش أن النزاع في سوريا لم يخلق فجأة، بل تطور عبر سنوات طويلة من التصعيد المنظم والتحشيد المناطقي والطائفي، ما أدى إلى تفتت النسيج الاجتماعي، وتحطم الثقة بين مكونات المجتمع، عند سقوط النظام البائد، مشيرة إلى أن ما قام به النظام من مجازر وإعدام المدنيين وتهجير السكان كان استهدافًا لمكون من الشعب السوري، ما خلق حالة من الخوف طويلة الأمد، رسخت التقسيم للمناطق على أساس الطوائف.
وتقول إن الأحداث التي جرت في الساحل في آذار/ مارس الفائت، أظهرت كيفية استخدام العنف الطائفي، لتفكيك الثقة في المؤسسات الحكومية والقانون، مضيفة أن الاشتباكات التي جرت في تموز/ يوليو في السويداء، والتي أدت لمقتل أكثر من 1400 شخص وتشريد نحو 176 ألف من مدنهم وقراهم، كسرت أواصر التعايش، في منطقة كانت تصنف حتى وقت قريب، كرمز من رموز التعايش السلمي.
ولفتت الكاتبة إلى أن أهم أدوات تقويض السلم الأهلي التي تعمدها النظام البائد، عمليات التغيير الديمغرافي الممنهج، كما حدث في حمص، حيث تمت عمليات تهجير واسعة في بابا عمرو وكرم الزيتون عام 2012، ما أسفر عن نزوح 100 ألف شخص، وتسكين مؤيدي النظام مكانهم، ما خلق فجوة بنيوية في التركيبة الاجتماعية لسنوات عدة.
وعن آليات المصالحة المحلية، التي كان يقوم بها النظام البائد، كشكل من أشكال التعايش الوهمي، أكدت هناء درويش أن الهدف منها كان فقط تأمين العسكريين، وفرض السيطرة على المناطق كما حدث في حمص ودرعا، إذ كانت هذه اللجان أدوات للسيطرة على المجتمع المحلي، وتهميش المعارضين، مؤكدة أن كل هذه الوقائع، توضح أن النزاع السوري، لم يكن مجرد مواجهة سياسية أو عسكرية، بل مشروع متعمد لتفعيل الانقسامات القديمة، وتحويلها إلى واقع يومي، تختفي بشكل مؤقت في المناطق المتداخلة طائفيا، ثم تنفجر عند أول اختبار حقيقي للانتماء.
آليات بناء السلم الأهلي
وحول آليات بناء السلم الأهلي، أوضحت الكاتبة والناشطة السياسية أن البناء يحتاج إلى مقاربات عدة، لا يمكن فرضه بالقوة، ولا تركه للأحداث والمجريات، ولا يمكن بناؤه بالخطابات، بل هو ناتج عمل دؤوب على محاور عدة، أهمها إعادة بناء التعليم ليحقق أهدافه بعيدًا عن الحشو والنظريات المغايرة للواقع والشعارات الجوفاء، إلى جانب تفعيل دور الإعلام كأداة للتعبئة ومساحة فعالة للحوار بين كافة المكونات والأطياف.
وأضافت أن العدالة الانتقالية، من أهم أدوات بناء السلم الأهلي، فالاعتراف والمحاسبة والمصالحة، أدوات لبناء السلم الأهلي، بالإضافة إلى دور المجتمعات المحلية، ومنحها الثقة لبناء جسور الحوار.
"الوعي الطائفي" أداة لبناء السلم الأهلي
وأكدت هناء درويش أن تفعيل مصطلح "الوعي الطائفي" بمعناه الإيجابي، يعتبر أداة فعالة لبناء السلم الأهلي، مؤكدة أنه لا يعني تكريس الانقسام، بل يجب أن يكون مدخلًا لفهم أعمق للواقع السوري، إذ من المهم أن ندرك كيف تم استخدام الطائفية في تكريس الصراع، لنمتلك القدرة على تفكيك الخطابات التي استغلت الانتماء للطائفة، عبر الاعتراف بالوجود الطائفي، دون تسويقه كهوية نهائية، ما يعني منح الطوائف المساحات، لتعبر عن نفسها، ولكن ضمن إطار وطني جامع، وانعكاس هذا الوعي يتجلى حين لا يشعر أي فرد بأن عليه أن يختار بين طائفته ووطنه.
معوقات بناء السلم الأهلي
ومن أبرز معوقات بناء السلم الأهلي، وفقًا لـدرويش، استمرار الخطاب التحريضي الذي يدعو للانقسام، وغياب الإرادة السياسية الحقيقية للتغيير، وشعور بعض الفئات بالتهميش وأنها غير ممثلة، إلى جانب "الخوف من العدالة"، إذ يظن البعض أن المحاسبة، قد تهدد الاستقرار، إلا أن ذاكرة الضحايا المثقلة بالجراح، لا يمكن تعافيها بدون محاسبة، وحين تبقى الجراح مفتوحة، يستحيل الحديث عن سلم أهلي قابل للحياة.
وأشارت الكاتبة إلى أن الاعتقال والإخفاء القسري الذي تعمده النظام البائد، لم يكن مجرد أداة قمع بل تحول إلى جرح مفتوح في الجسد الاجتماعي، فكل شهيد تحت التعذيب أو مختف قسريًا، خلفه عائلة معلقة بين الأمل والرغبة في تحقيق العدالة، وأطفال حرموا من ذويهم، ونساء تحولن إلى معيلات وحيدات لأسرهن، وأطفال تغيرت هوياتهم، ما يعني مجتمعات بأكملها فاقدة للثقة ببعضها، حتى أصبح الشك جزءًا من العلاقة اليومية بين الناس، ومع تكرار الاعتقال التعسفي، بسبب التقارير والمخبرين، تآكلت الروابط بين أفراد المجتمع، وضعف الإحساس بالأمان الجماعي، وغابت الثقة التي هي أساس التعايش.
الطائفية تهدم السلم الأهلي
وختمت هناء درويش محدرة من الوقوع في مستنقع الطائفية والخطاب التحريضي، الذي يقوض بناء السلم الأهلي، مؤكدة ذلك عبر مثال واقعي تنعكس دلالاته على الواقع وينذر بخطر كبير، حيث قالت إن الموضوع يتعدى الخطابات، حتى بات كل مايدور من حولنا يوظف لتعميق الخلاف بين المكونات، خاصة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تتعمد النبرات التحريضية وتكريس الخطاب الطائفي.
وأضافت أن استهداف الأطفال بهذا الخطاب هو الأشد كارثية، حيث يتم توظيف ألعاب الأطفال الفيزيائية والإلكترونية في هذا السياق، وذكرت أن لعبة "الشرطة والحرامية"، تغيرت بعد سقوط النظام وأصبح اسمها لعبة "الهيئة والفلول"، لكنها اليوم أخذت منحى خطيرًا بين الأطفال الذين هم نواة المجتمع، ليردد بعض الأطفال: "تعالوا نلعب بدو ودروز"، ما يجعلنا نقرع ناقوس الخطر، ونقول لا للطائفية التي تهدم السلم الأهلي.
--------------
الترا سوريا