نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

خديعة الرحمة

03/07/2025 - هناء محمد درويش

التريمسة...حين يلتقي العائد بظلّه

24/06/2025 - عبير داغر إسبر

انهيار إمبراطورية إيران

17/06/2025 - براءة الحمدو

حزب حاكم جديد في سورية

08/06/2025 - بشير البكر

المفتي قبلان صاحب الرؤية

02/06/2025 - يوسف بزي

المثقف من قرامشي إلى «تويتر»

24/05/2025 - د. عبدالله الغذامي :


عن الثورة، والانكسار، والحلم الذي لم يكتمل بعد.






حين سقط النظام، اجتاحتني سعادة طاغية. لم يكن فرحًا عاديًا، بل إحساسًا جارفًا كأنني أتنفس للمرة الأولى. شعرت أنني في مشهد لا ينتمي للواقع، بل لأمنية ظلت مستحيلة، فإذا بها تتحقق فجأة. كتبت يومها في دفتري: "إنه جميل جدًا، أكثر مما يمكن تصديقه". ولعل هذا التعبير العفوي يلخص الشعور الذي سكنني، والسقف العالي لما تخيلته آتياً



لكن لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت غمامة ثقيلة تحجب ذلك الضوء. أخذت النشوة بالتلاشي، وحل محلها قلق مكتوم، وترقّب مشوب بالحذر. بدت البلاد وكأنها تقف على حافة سؤال مفتوح: ماذا بعد؟ أصدقاء كثيرون دخلوا في هياكل "النظام الجديد"، بعضهم بحسن نية، وبعضهم بانتهازية لا تخفى. أما أنا، فبقيت في الخلف كما كنت عليه دائمًا، أراقب بحذر. تساءلت: هل هم على حق؟ أم أنني مُخطئ في شكوكي؟

بدأت ملامح الانحراف تظهر تدريجيًا، في أحداث تبدو للوهلة الأولى فردية، لكنها كشفت لي عن تحول أكبر، أكثر عمقًا وخطورة. شيئًا فشيئًا، شعرت أن ما كنت أخشاه آخذ في التشكل، على حساب ما كنت أتمناه. وقد بدا ربما أن الثورة لا تتجه نحو العدالة والمواطنة، بل نحو استبدال سلطة بأخرى. كأننا لم نكن نطلب نهاية الاستبداد، بل فقط تغيير هوية المستبد.
المشكلة لم تكن فقط في تغليب منطق "الأغلبية" على حساب "الأقلية"، بل في إعادة إنتاج عقلية الإقصاء نفسها. منطق الغلبة لا يزال هو الحاكم، وإن تغيّر اللون والشعار. وكما قال فرانز فانون: "إن أسوأ ما في الاستعمار هو أن أبناءه، حين يتحررون منه، يقلّدونه في إدارة البلاد."
وهذا بالضبط ما خفت منه حين رأيت كيف تحوّل خطاب الثورة إلى وسيلة جديدة للهيمنة، لا لتحرير الجميع.

ولم يكن البعد السياسي وحده هو ما انحرف. في الميدان الاقتصادي، بدأت تتسلل سرديات السوق النيو ليبرالية، متخفّية بشعارات التحديث والانفتاح. صرنا نسمع خطابًا يروج لخصخصة كل القطاع العام، ولرفع الدعم "غير الفعّال"، ولتحرير الاقتصاد من "عبء الفقراء"، وكأن الثورة قامت من أجل بناء سوق لا مجتمع، استهلاك لا مواطنة.
هذا التوجه النيوليبرالي بدا وكأنه خارج من مكاتب البنك الدولي لا من شوارع السوريين الذين ثاروا من أجل الخبز والكرامة. وكما كتب المفكر ديفيد هارفي: "النيوليبرالية ليست مجرد مشروع اقتصادي، بل مشروع لإعادة هيكلة السلطة، لصالح فئة محدودة، وتحت غطاء الحداثة." وهذا ما رأيته يحدث أمام عيني: منظومة جديدة تنمو، ولكنها لا تخدم الجميع، بل تعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي بطبعة مختلفة.

باسم "الفاعلية" جرى سحق المؤسسات التي كانت -رغم ضعفها- تشكّل سندًا للفقراء. وباسم "الاستثمار" سُمِح لرؤوس الأموال، ولو من الحقبة البائدة، بالهيمنة على القرار. حتى النقاش الثقافي حول معنى الاقتصاد غاب تمامًا، وصار الحديث كله بلغة الأرقام، لا بلغة الناس. ويكاد المرء يشعر بسعي محموم لتغييب العدالة الاجتماعية، كما غُيّبت من قبلها العدالة السياسية.
وفي خضم هذا النقاش المتشعب حول السلطة والعدالة والانتماء، تبرز الحاجة إلى شكل من الحكم يضمن الحدّ الأدنى من الإنصاف للجميع، من دون أن يُقصي أحدًا أو يُخضع أحدًا لمعيار ديني أو مذهبي. هنا تظهر الدولة العلمانية -لا بوصفها موقفًا ضد الدين- بل كصيغة تضمن ألا يتداخل رجال الدين في المشهد السياسي، وألا تُوظَّف السياسة لتدجين الدين أو استغلاله. إن الفصل بين السلطات الدينية والسياسية لا يعني نزع البعد الأخلاقي عن الحياة العامة، بل يحفظ له مكانته في وجدان الناس وسلوكهم، بعيدًا عن الاستغلال أو القسر. فاحترام الأديان لا يكون بفرضها من فوق، بل بحماية حرية الاعتقاد ومساواة المواطنين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم. نحن بحاجة إلى دولة لا تسأل مواطنها: من أنت؟ بل: ما حقوقك؟ وما واجباتك؟

الخذلان لم يكن فقط من النخب التي أمسكت السلطة، بل من المسار العام الذي اتخذته الثورة، ومن العجز الجماعي عن مواجهة الانحراف. صرنا أسرى روايتين: واحدة تمجّد الماضي وتسعى لإحيائه، وأخرى تُقدّس "المستقبل" على الطريقة الغربية، دون أي وعي بالسياق المحلي. ضاع صوت الثورة الحقيقي بينهما.
ومع ذلك، رغم الخيبات، لم ينطفئ الأمل تمامًا. لا يزال في البلاد من يؤمن أن المستقبل لا يُبنى بالإقصاء، ولا بالاستثمار السياسي في المظلومية، بل بإعادة الاعتبار إلى كل مكوّن من مكونات المجتمع. الانفتاح الثقافي والسياسي، والعدالة الطبقية، والمشاركة الواسعة، لا تزال ممكنة إذا توفّرت النية والرؤية.

وكما يقول محمود درويش: "علّمني هذا الطريق الطويل… أن أمشي إلى آخر الحلم."
وهذا بالضبط ما يجب ان نتمسك به الآن: أن نمشي، ولو ببطء، نحو الحلم الأول. لا بوصفه وهمًا رومانسيًا، بل كضرورة تاريخية، لا بد منها إذا أردنا لهذا البلد أن ينجو. علينا ربما أن نكسر هذا المنطق الثنائي الذي حصرنا في خيارين: إما استبداد قديم أزلناه، أو خطر حدوث استبداد جديد يسعى بعضنا اليه، إما اقتصاد فاسد أو اقتصاد مفترس. المستقبل لا يصنعه هؤلاء ولا أولئك، بل يُصنع من رؤية جامعة، تؤمن بالتنوع ولا تخشاه، وتبني على المشاركة لا الإقصاء، وعلى العدالة لا الفُرَص الفردية.
ما زال يمكننا أن نحلم بسوريا تكون "جميلة جدًا… وقابلة للتصديق". فقط إن امتلكنا شجاعة الاعتراف، وصدق المراجعة، وجرأة الخوض في الأمواج المرتفعة.
-------
المدن

سلام كواكبي
الخميس 3 يوليوز 2025