المشهد قد يعتقده البعض غريباً، لكن من يعرفون طبيعة بناء العلاقات لدى القيادة السعودية، يدركون أنه أمر طبيعي، وخطوة باتجاه مد الجسور مع مختلف العقلاء والحكماء، من مختلف الجنسيات والأعراق والمذاهب. وهي النقطة التي سعى الخيون لإبرازها في عنوان كتابه وصورة الغلاف.
كان د.الخيون حاضراً فعاليات موسم "الجنادرية"، وكان بين المدعوين كل من: السيد هاني فحص، والسيد محمد حسن الأمين، والسيد علي الأمين، والثلاثي كان محط اهتمام وعناية، لما يمثلونه من ثقل ثقافي، وسياسي، وأيضا البعد الديني والروحي.
الأمينان، رغم ما يحظيان به من مكانة، إلا أن السيد فحص كان له وقعٌ مختلف، وذلك عائد لشخصيته من جهة، وعلاقاته المتنوعة والمتعددة، إضافة للأدوار التي كان يقوم بها.
هاني فحص الذي رحل العام 2014 بعد مشكلات صحية ألمت به، كان محل احترام المرجعيات الدينية المسلمة والمسيحية، وله تقدير لدى بيوت الحكم في الرياض وأبو ظبي والمنامة والكويت.. كما علاقاته العربية والإسلامية الممتدة في مصر والعراق والأردن وفلسطين وسوريا وإيران، فضلاً عن لبنان الذي هو ساحته الأساسية، والتي كون فيها شخصية مستقلة، نالت احتراماً من "قريطم" و"المختارة" و"الضاحية الجنوبية" و"بكركي".
لم يكن السيد هاني فحص نسخة مكررة عن آخرين، بل كان العالم والسياسي والمثقف والأديب الذي رسم له منهجاً خاصاً، أساسه الاعتدال، والحوار، والتواصل، والعقلانية، والمدنية، والسعي لبناء الجسور بين المختلفين.
تجد السيد هاني في لقاءاته بين حشد من علماء الدين، أو مجموعة من الشعراء، أو رهط من السياسيين، أو وسط نقاش في جلسة صريحة حول الوجود والدين ومعنى الكون.
ذات مرة، كانت إحدى الصحافيات الروسيات في زيارة إلى لبنان، بعيد اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، وأخذتها معي إلى شقة السيد فحص في ضاحية بيروت الجنوبية. كانت تتوقع أنها ستكون أمام شخصية رجل دين، بمعناها التقليدي، إلا أنها تفاجأت بمثقف يتحدث معها عن الأدب الروسي، والفن التشكيلي، والموسيقى، وإحدى الشخصيات الغنائية النسائية المشهورة في روسيا... ويذهب الحديث بعيداً عن السياسة في نقاط عدة لم تتوقع أن تسمعها من رجل يرتدي عمة على رأسه!
كنت تجد هاني فحص في الأديرة والكنائس، ومع المؤمنين والملحدين، والمتدينين وغير الدينيين، والرجال والنساء.. كان إنساناً طبيعياً يمارس حياته بوعي وانفتاح ومسؤولية، وعمل دؤوب لا يكل ولا يمل.
عندما نستذكر السيد هاني، فإنني شخصياً أستحضر إنساناً غير الكثير في تفكيري، وجعلني أكثر تحرراً، وأقل انحيازاً لآرائي الذاتية.
العام 2004، كانت لدي انتقادات كثيرة تجاه البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، وكنت مع أبو حسن في شقته، لا أنسى حينها كيف غير نظرتي، وشرح لي بطريقة سهلة ومقنعة في آن معاً سياسات البطريرك، ولماذا يتخذ هذه المواقف، وطبيعة علاقاته مع سوريا.
كان فحص هادئاً في تحليله، ذو لغة أدبية رفيعة، وقدرة على الربط بين الخيوط الدقيقة المتشعبة، وذلك فن لا يتقنه إلا القلة النادرة.
الأدوار التي كان السيد هاني فحص يقوم بها، وقدرته على تكوين علاقات مع جهات عدة، قد تكون متناقضة فيما بينها أو متصارعة، هي ما تجعل منه "عملة صعبة" نحن في حاجة ماسة لها الآن، لتجسير الهوة بين المختلفين، وتعبيد الطرق تمهيداً لإحداث اختراقات في جدار العزلة العالية.
علاقات فحص هذه، لم تصيره شخصية لا موقف لها، أو لا يمكنك أن تميز لها لوناً أو رأياً، وإنما على العكس، صراحته واستقلاله ووجهة نظره العقلانية الشفافة هي ما جعلته محل ثقة واحترام.
مساعي المصالحات الجادة، البعيدة عن الضوضاء، ليست بالفعل الهين، بل عمل يحتاج صبراً، مثابرة، قوة، وشجاعة في آن معا، ولذا ينكفئ الكثيرون عن القيام بذلك.
هل يعني ذلك أن الساحة باتت خالية؟ أعتقد أن الجواب هو: لا. هنالك شخصيات وإن كانت قليلة يمكنها القيام بأدوار إيجابية تواصلية مشابهة، وربما أيضاً تطوير الأداء بما يتناسب وطبيعة المرحلة وحجم التحديات.
من الأسماء التي لديها خبرة في هذا الصدد، رفيق درب السيد هاني فحص، الدكتور محمد السماك. وهو شخصية تتصف بالهدوء والروية والروح المحبة للخير.
بعض الأسماء التي قد تعتبر من الجيلين الثاني أو الثالث، بعيد السيد فحص، ويمكن التعويل عليها، مثل: الشيخ المحفوظ بن بيه، والسيد جواد الخوئي، وكلاهما يمتازان بإيمانها العميق بـ"العقل الحواري العملي" وليس مجرد التنظير والثرثرات التي لا تقدم أي مشاريع مفيدة للمجتمعات.
أنفقدُ الحماسة والأمل، لأن هاني فحص لم يعد بيننا؟ اللبيب يجب أن لا يتصرف على هذا النحو، بل، يأخذ من تجربة فحص مكامن قوتها، ويتجنب مواطن الضعف، ويبني عليها، ويطور آليات العمل، ويحوله من جهد ذاتي فردي، إلى عمل مؤسساتي، وهو ما سعى فحص له في آخر سني حياته، وإن لم يسعفه الوقت ولا الإمكانيات ولا الأوضاع السياسية والأمنية لفعل ذلك؛ إلا أن الفرصة مواتية الآن للتحرك باتجاه خلق مشاريع تواصلية، تنال قبولاً واحتراماً لدى القيادات السياسية، وتساهم في ترسيخ قيم التعددية والمدنية والسلم الأهلي.
-------
النهار
-------
النهار