نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

التعميم بوصفه "تخبيصة" العقل الأولى

18/04/2024 - مصطفى تاج الدين الموسى

رسائل النيران بين إيران وإسرائيل

15/04/2024 - محمد مختار الشَنقيطي

جنوب لبنان.. بعد غزة

06/04/2024 - عبد الوهاب بدرخان

غزة والأخلاق العابرة للحدود والأرباح

06/04/2024 - عدنان عبد الرزاق

نزار قباني وتلاميذ غزة

06/04/2024 - صبحي حديدي

حرب لإخراج إيران من سوريا

06/04/2024 - محمد قواص

على هامش رواية ياسر عبد ربه

04/04/2024 - حازم صاغية


*إفلاس مدرسة الاستعراب السياسي الروسية*





بلا شك شكلت ثورات الربيع العربي حالة من الصدمة غير المتوقعة لأغلب المستعربين الروس ومن المحزن أن قدراتهم الإبداعية والعلمية لم تبتكر لفهم كل ما يجري في البلدان العربية من تحولات عميقة بنيوية وفكرية وسياسية سوى ربطها بالمخططات الإمبريالية العالمية وحلف الناتو. فعوضاً عن البحث في الأسباب الاجتماعية والسياسية ربطوا ثورات الربيع العربي بالعوامل الخارجية والجيوسياسية،


 وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن روسيا من الناحية الجيوسياسية تعتبر دولة أوراسية وتربطها بالمشرق العربي علاقات تاريخية قديمة ثقافية وروحية، ولديها مدرسة استعرابية عريقة، كان من المفترض من باحثيها المستعربين أن يدرسوا القاع العربي بعمق والتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي جرت في المجتمعات العربية، وتحديداً في النصف الثاني من القرن الفائت. إلا أنهم فضلوا اللجوء إلى أسهل الطرق، وحملوا الغرب الإمبريالي مسؤولية كل ما يحدث. ويمكن القول إن مدرسة الاستعراب السياسية الروسية تعاني حالياً من أزمة عضوية أدت إلى إفلاسها وتقهقرها إلى مستوى التحليلات السطحية التقليدية البعيدة عن التحليل العلمي الرصين، والاكتفاء بالقول: "كل الذنب يتحمله الغرب".
وتنحصر أسباب إفلاس مدرسة الاستعراب السياسية الروسية واغترابها عن الواقع العربي في عدة عوامل أهمها:
أولا: لقد تأسست مدرسة الاستعراب السياسية الروسية الحديثة في المرحلة السوفيتية، وتحديداً في بداية الخمسينات من القرن العشرين بعد وفاة ستالين، أي في بداية الحرب الباردة والمجابهة بين القطبين العالميين الاشتراكي والرأسمالي على الساحة الدولية. في تلك المرحلة اتجه الاتحاد السوفيتي للبحث عن حلفاء له في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنها دول المشرق العربي، التي أحرزت استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت تتطور اقتصادياً واجتماعياً تحت قيادة البرجوازيات المحلية الوطنية، ضمن استمرارية مشروع النهضة العربي الذي بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
تنحصر مشكلة مدرسة الاستعراب السوفيتية الغارقة بالمقولات الإيديولوجية الشيوعية، أنها نظرت إلى دول المشرق العربي بمنظار ماركسي لينيني، ومن زاوية الصراع بين الاتحاد السوفيتي والإمبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. ولذلك قيم المستعربون السوفييت الأنظمة العربية التي كانت سائدة في الخمسينات من القرن الفائت بأنها أنظمة رجعية وتدور في فلك الإمبريالية العالمية، وكل مشروع النهضة العربية الطامح نحو إقامة أنظمة مدنية ديمقراطية، كانت تنظر إليها مدرسة الاستعراب السوفيتية لا أكثر من أنها دعايات وشعارات إمبريالية أمريكية.
في المقابل، قدم الاتحاد السوفيتي مختلف أشكال الدعم للحركات والأحزاب السياسية القومية واليسارية مثل حركة القوميين العرب والناصريين والبعثيين، وأطلق عليها مصطلح الحركات «الثورية الديموقراطية »، تيمنا بظاهرة الديمقراطيين الثوريين الروس، التي كانت سائدة في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقيمت المدرسة الاستعرابية السياسية السوفيتية إيجابياً الانقلابات العسكرية في مصر عام 1952 وسوريا عام 1963 وغيرها من الدول العربية، مثل السودان والعراق وليبيا والجزائر بقيادة الحركات والأحزاب «الديمقراطية الثورية »، واعتبرت الأنظمة السياسية التي أنتجتها هذه الانقلابات العسكرية أنظمة تقدمية معادية للقوى الرجعية والإمبريالية العالمية. ولم تأخذ بعين الاعتبار
حقيقة أن هذه الانقلابات العسكرية حرفت الدول العربية عن مسار تطورها الطبيعي، وأدخلتها في متاهة العطالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تحت شعارات براقة مزيفة. وهذه الحقيقة لم تكن تهم المستعربين السوفييت، وكل ما كان يهمهم هو بروز حلفاء جدد للاتحاد السوفيتي على الساحة الدولية، في صراعه ضد المعسكر الإمبريالي العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. وبالنسبة لصيرورة تطور الأنظمة التقدمية اجترحت قريحة المستعربين السوفييت نظرية "التطور اللا رأسمالي"، اعتقاداً منهم أن هذه الدول يمكن أن تقفز فوق مرحلة الرأسمالية، وتنتقل فوراً إلى النظام الاشتراكي. وفور ذلك قامت هذه الأنظمة بنسخ التجربة السوفيتية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الإصلاح
الزراعي وتأميم الشركات الصناعية الكبيرة والمتوسطة وأحياناً الصغيرة، والهيمنة على التجارة الخارجية والداخلية. وقد أدت عملية النسخ المتهورة للتجربة السوفيتية وتطبيقها على الواقع العربي إلى نتائج اقتصادية واجتماعية كارثية، أدخلت «الدول التقدمية » في حالة من العطالة والشلل الكامل، وأصبحت تعيش على معونات الدول الخليجية الاقتصادية والقروض الأجنبية. ونظراً لتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وانتشار الفساد والرشوة والبيروقراطية في الدول «التقدمية » ونهب ثروات البلاد، وخشية سقوط هذه الأنظمة، قامت الفئات الفاسدة الحاكمة «الديمقراطية الثورية » بنسخ تجربة المخابرات والأجهزة الأمنية في الدول الاشتراكية، وخاصة السوفيتية والألمانية الشرقية، لقمع الشعوب العربية وتحويل المجتمعات «التقدمية » إلى سجون ومعسكرات اعتقال.
ثانيا: الموقف السلبي الذي تتخذه مدرسة الاستعراب الروسية من الإسلام ودوره في الحياة الروحية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية والإسلامية. ومن دون أخذ العامل الإسلامي بعين الاعتبار ودوره لا يمكن فهم حقيقة ما يجري في الدول العربية، وبالأخص دور الإسلام الروحي والفكري على أثر انهيار الإيديولوجيات القومجية والماركسية، وبالأخص على أثر فشل التجارب الشمولية في الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية ومثيلاتها في مختلف القارات. وتعود جذور موقف مدرسة الاستعراب الروسية السياسية السلبي من الإسلام إلى المرحلة السوفيتية التي كانت تعتبر الأديان معرقلة لتطور المجتمعات، وهذا الموقف السلبي من الإسلام دفع الاتحاد السوفيتي للاعتماد على الأقليات الدينية، كما هو الحال في سوريا، وعندما ثار الشعب السوري من أجل حريته وكرامته نسي المستعربون الروس المدخل الاجتماعي والسياسي في تحليل الحركات الاجتماعية والسياسية، واعتبروا ما يجري في سوريا ثورة السنة ضد سلطة الأقليات الدينية، ولم يفهموا أن جوهر الثورة السورية وهدفها هو الإطاحة بنظام ديكتاتوري شمولي والانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي يحرر كافة أطياف الشعب السوري من سلطة الاستبداد والفساد.
ثالثا: اعتبرت مدرسة الاستعراب السياسية الروسية أن ثورات الربيع العربي ستؤدي إلى الإطاحة بالنخب الحاكمة في الدول العربية، وستعم الفوضى والخراب، وبنتيجتها ستفقد روسيا مصالحها، كما جرى في ليبيا وقبلها في العراق. وهذا الخوف الروسي من ثورات الربيع العربي يكمن في أن الروس، وعلى مدى عدة عقود، كانوا يحصرون علاقاتهم مع الدول العربية بالنخب الحاكمة، ولم تكن لهم علاقات وقنوات مع الأحزاب والحركات المعارضة، ولذلك كانوا بعيدين عن الشارع العربي، ولم يفهموا حقيقة أن الشعوب العربية تعتبر الحكام العرب فئة فاسدة تنهب ثروات البلاد، وخائنة لمصالح الشعوب العربية القومية، وما هي أكثر من بيادق تتربع على عروش الحكم بدعم من الدول الغربية، ولذلك لم
يفهم المستعربون الروس أن في ثورات الربيع العربي توجِد اتجاهات معادية للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط المؤيدة للسياسة الإسرائيلية على عدة عقود.
ويمكن القول إن إخفاق مسيرة التحولات الديمقراطية في روسيا على أثر انهيار الاتحاد السوفيتي، ساهم إلى حد كبير في عودة هيمنة التيارات الفكرية والسياسية ذات الطابع القومي في الساحة الفكرية والسياسية الروسية. ولذلك لا يفهم المستعربون الروس لماذا تريد الشعوب العربية الحرية والديمقراطية، والشعوب العربية أيضا، وبالمقابل، لا تفهمهم. ولا يمكن أن تغفر لهم مساندتهم المفتوحة واللاأخلاقية للطغاة قتلة الشعب في سوريا.

د. عمر شعار
الاربعاء 10 يناير 2018