يقدّم ريجيس دوبريه، في كتابه «نقد العقل السياسي» (منشورات دار الآداب 1986، وبترجمة عفيف دمشقية) تحليلا فريدا وفذا مختلفا لاشتباكات الآلهة القديمة والحديثة، تتكشّف خلاله معادلات فائقة الأهمية لأي مهتم بالسياسة التي يصفها بـ»مقر الشيطان الرسمي». الكتاب صعب القراءة، على عكس كتب دوبريه الأخرى (أحدها مكتوب عن لبنان بعد اغتيال سمير قصير: المفكر في مواجهة القبائل) ولعل هذا عائد إلى تلك الموضوعات المعقدة التي يحاول فك طلاسمها التي توّهت النخب الثقافية والسياسية الحديثة، وخصوصا في عالمنا العربي. ها هنا محاولتي لتبسيط الكتاب.
يبدأ «نقد العقل السياسي» بتمهيد طويل ناقد لمفهوم الأيديولوجيا، حيث ينبغي عدم البحث عن «جذورها المشؤومة» في منطق خاص بالأفكار، و»إنما في الحقل الحراري الخاص بالأهواء وبما يصوّره الوهم والخيال». الأيديولوجية، على المستوى الأكاديمي النظري، «نقيض معرفة وافية بالمرام» وهي، في مفهومها الجدالي، «نقيض الاستقامة» غير أن المؤلف يراها، رغم ذلك كله، «كبش الفداء لآلامنا الحديثة».
تشريح الدين مفتاح تشريح الأيديولوجية
ينقلب جدل الكاتب، فجأة من نقد الأيديولوجيا إلى نقد الأيديولوجيين، ونقد ناقدي الأيديولوجية، فاتحا خيطين واسعين للنقاش، يبدوان متعارضين. خيطان أهلكا، في ظني، أمما من الأيديولوجيين… ومعادي الأيديولوجيات!
في الخيط الأول يستخدم دوبريه كمثل كتابا ماركسيا مبنيّا، كما يقول، على الإسقاط الارتجاعي للثنائي الطرازي الجديد: اعتقاد/ معرفة، خرافة/ عقل، علم/ دين، معتبرا أنها «جميعا تفرعات ثنائية قد يُظهر بطلانها أدنى عبور في تاريخ العلوم كما في تاريخ الأديان» مشيرا، في موضع آخر، إلى أن «انطلاقة العلوم في القرون الخمسة عشر الأخيرة، لا تمنع البشرية أن تعتنق اليوم كما بالأمس هذه العقائد الثلاث أو غيرها».
أما في الخيط الثاني، فيكشف تهافت إحدى أكثر الأفكار التاريخية الحديثة انتشارا، وهي فكرة إمكانية استئصال دين من الأديان (لأن «تفظيعا» حصل باسمه، وللدقة فإن دوبريه يتحدث هنا عن الكاثوليكية) وقياسا على ذلك، استحالة استئصال أيديولوجية ما (فليس هناك في صدد «قوة الأفكار» انفصال بين الدين والأيديولوجية والسحر). تشريح الدين هو مفتاح تشريح الأيديولوجية، لأن الأيديولوجية تحاكي الدين وليس العكس، ولأن مفهوم الأيديولوجية «يطفو تحت أفق تسوية حسابات قديمة العهد».
نصل بعد أكثر من 118 صفحة من الكتاب لشرح دوبريه لخياراته في «نقد العقل السياسي»: دراسة الشروط المتعلقة بنجاعة فكرة من الأفكار، أو أيديولوجية من الأيديولوجيات، حيث «تهم الأنباء الزائفة العقل السياسي أكثر مما تهمه الحقائق النظرية التي لا تشيع» و»شروط القوة التي ينبغي ان تكتمل لفكرة كي تصبح قوة». في شرح لاحق يقدم دوبريه تعريفا غامضا لـ»اللاوعي» (الذي سنفترض أنه الدين) على أنه «مجموعة العمليات التنظيمية التي تضمن بقاء الجماعة المادي» الذي تعود إليه البنى الجماعية (ثقافات، حضارات، أمم، لكن أيضا طوائف، أحزاب، حركات، شيع، الخ…) «مباشرة وبالفعل» في أحوال الصراع «التي تنبّه إجراءات تحقيق الذات».
الله: فكرة أم «قوة عظمى»؟
خلال شرحه للأفكار الآنفة، يهشّم دوبريه، دون رحمة، نظرية ماركس (كما ظهرت في كتابه الأيديولوجية الألمانية) عن الأيديولوجية «التي تصل متأخرة دائما في مجتمع ينهض فيه عمال الواقع مبكرين جدا» معتبر أن «أكبر مشكلة واجهتها الإشكالية الماركسية هي: كيف سأعيد جمع ما فرقته اعتباطا، أي «مسار الحياة الحقيقية» و»الانعكاسات أو الأصداء الأيديولوجية»؟ تكذّب المعادلة الماركسية، في رأي المؤلف، «أمتن نتائج تاريخ الأديان والتاريخ» «حيث لا سوق بالتأكيد لفك الشيء عن رمزه، والواقع عن تصويره، والعمل عن القول» و»سواء في الشعر الغنائي، أو في الرسائل الجامعية، أو في التظاهرات الثقافية للأقليات التي تخاطب بعضها بعضا ويدور الحديث عنها (الأوكستانية، والباسكية، والأيرلندية، واليهودية، والفلسطينية إلخ…) يرى المرء في كل مكان كيف أن «الاتفاق على هوية الجماعة ووحدتها يصنع واقع الجماعة ووحدتها».
«ألا يكون الله في نظر فلاح من إقليم فانديه (الفرنسي) تربى على أيدي الآباء الطيبين، وعضو سابق في «الشبيبة الكاثوليكية» وشماس لأبرشيته، ألا يكون الله في نظره سوى «تصور»؟ هل الله «فكرة» في نظر الإيراني أو الأفغاني المعدمين؟ لا: بل هو حضور تام وملح، حضور أحق من الحقيقة المحيطة. إنه أكثر من انعكاس مشوه للسيد الإقطاعي، إنه مشيئة فوق كل مشيئة تدفع لمواجهة الدبابات (الله قوة عظمى). لقد حلل ماركس الشاب الدين، حسب قوله، على أنه نهج «انعكاسات» خداعة، واعتبر «قدرته الاجتماعية» نتيجة لاستلاب الضمائر الفردية البائسة؛ لكنه لم يحلله قط بوصفه بنية انتماء طائفي، سياسي وعرقي في وقت معا. فترك التنظيمي يسقط («شعب الله») ليركز جهده على السامي (عمليات تصور الله).
ما يجب أن نعرفه عن تاريخ العالم
نقد دوبريه لتنظير ماركس حول الأيديولوجية لا يتناقض مع نظرته إلى تحول الحركة الماركسية نفسها إلى عقيدة دينية بعد أن أعطى: «لينين، القديس بولس الخاص بماركس، لروح الشيوعية تجسيدها النهائي، إنه «الجسد» الذي نطق بحقيقة «الكلمة» لا العكس». ومن هذه النقطة التي صعدها يصل المؤلف إلى أن بين الإسلام والمسيحية والشيوعية صفة مشتركة في كونها جميعا «تُجمل ما ينبغي أن أعرفه عن تاريخ العالم وما ينبغي أن أفعل فيه». يوجّه المؤلف نقدا قاسيا لـ»من يريدون شفاء الناس من الاعتقاد وقد نسوا أن الاعتقاد قد شفى أكثر من واحد منهم» موضحا أن «الرأي، والاقتناع، والإيمان، إلخ… تحتل صميم العقل السياسي» و»يتمثل شرح الأسباب الموجبة لقيام السلطة السياسية أول ما يتمثل في شرح الآراء السائدة». ورغم الاختلافات التي تجعل المقارنة صعبة بين المسيحية، التي هي دين، والنازية، التي هي «أسطورية محمومة» والماركسية – اللينينية، التي هي «أيديولوجيا علمية» فإن المشترك بينها هو أن «اعتناق أي من هذه التكوينات العقائدية لا يتم بالاستنباط أو الاستدلال أو التفكير» وما يراه إنسان غير مؤمن وغريب عن هذه الجماعات وهو ينظر من الزجاج «أزمة جنون هذياني يرافقه شلل في الوظائف المنطقية الأولية».
غير أن لأشكال الجنون الهذياني آثارا تاريخية خطيرة، فحسب بيير غاسكار، ما كانت فتوحات القرن التاسع عشر لتنجز بهذه السهولة لو أنها «لم تكن قد أثارت في أوروبا من الأحلام أكثر مما أثارت من الحسابات» ولا بأس هنا من توسيع الفكرة بأن نستبدل أوروبا بأي جغرافيات وأديان وأحزاب وأيديولوجيات أخرى
------------.
القدس العربي