حسن العامري وحصة الفلاسي
منذ أن إنطلق برنامج "شاعر المليون" الذي تدعمه وتنتجه هيئة أبوظبي للثقافة والتراث سنة 2006، والذي وصف بأضخم مهرجان شعري على مستوى العالم، وأنا أتحين الفرصة للكتابة عن الشعر النبطي، إلى أن وصلتني دعوة كريمة لحضور الدورة الرابعة من هذا البرنامج الجماهيري الضخم عن الشعر النبطي التي إنطلقت يوم 16 ديسمبر على مسرح شاطىء الراحة بمدينة أبوظبي وتمتد مسيرة التنافس على مدى خمسة عشر أسبوعا.
للشعر النبطي مكانة مرموقة في منطقة الخليج خاصة بعد إطلاق برنامج "شاعر المليون"، لكني لا أجد مدخلا للنظر إلى ظاهرة شاعر المليون - إذا صح بتسميتها بذلك الإسم أو إذا صحّ وصفها بالظاهرة نظرا لإنتشارها كالنّار في هشيم الاعلام الخليجي- كالنظر إليها من نافذة توأمها المولود معها حيث تكون التوأمان ونميا وكبرا وعاشا في رحم تاريخي واحد وبطن إجتماعي مشترك وولدا على مسرح إعلامي واحد.
لذلك يمكن أن نرى الواحد منهما في مرآة الاخر، حتى ولو على سبيل التقابل والتضاد، وأعني بالتوأمين سالفي الذكر، توأم الشعر النبطي الذي يتنفس وينمو ويكبر في برنامج "شاعر المليون".
يقابله توأمه الشعر العربي الفصيح، الذي ينمو ويتنفس ويكبر في برنامج "أمير الشعراء"، مع الإعتراف بوجود بعض السمات الخصوصية الفارقة لكل من التوأمين بما يمثل بذرة قابلة للتشكل والنمو لشخصية كل منهما مستقبلا.
فإذا كان الشعر النبطي على مسرح الصحراء التاريخي والإجتماعي، قد عاش مقترنا بتزكية شيخ القبيلة في تدبيج المدائح الشعرية التي تصلح مدخلا للحصول على رضا الممدوح و عطائه المعنوي والمادي وهذا هو الأصل، فإن إنتقال هذا الكائن الشعري من مسرحه البدائي المعكر بغبار الصحراء ومنظومة القيم التقليدية التي كانت متفشية في البيئة البدوية إلى مسرح الإعلام الجديد المتمثل في القنوات الفضائية السابحة في سماوات العالم وشبكاته الإتصالية المعولمة، وهي النقلة التي تتطلب شحذ الهمم الشعرية إلى مستوى كل من النص وصاحبه لتجاوز الأسس البدائية التي كانت تتناسب مع شبكة العلاقات الإجتماعية المتصلة بالقبيلة والعشيرة وبطونها وأفخاذهما.
فالتحدي الحقيقي أمام الشعر النبطي اليوم، هو أن يلتحم بأسس البناء والتفاعل والإندماج في مجتمع الدولة الحديثة، ويخوض غمار الحياة والتطور الذي ينتظره مع جميع العناصر والقوى الفاعلة التي تسهم معه في بناء الدولة الحديثة ومجتمعاتها النامية، لا أن يظل يعيش على هامش الحياة المعاصرة أو بعيدا عنها موغلا في بدائيته حيث قيم الصحراء التي تم تجاوزها في الواقع العربي الراهن.
وهذه سمة ينبغي أن يتنبه لها الشعراء الذين يكتبون نصوصهم من جهة، مثل ما ينبغي أن ينتبه لها النقاد الذين يتصدون لهذه النصوص بالتقييم والتحكيم في اللجنة المحكمة. فما عاد الزمن زمن التكسب بالشعر بقدر ما هو زمن الإجادة وضمان الجودة في كل مجال وفي مقدمتها الشعر الذي هو ديوان العرب وذاكرتهم الحية وموضع السر لديهم في حلهم ترحالهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لذلك ينبغي أن يظل الشعر لدى العرب البوصلة الحقيقية الصادقة التي تشير إليهم نحو جهة المستقبل حيث التطور والتحديث والمغايرة، وكل ذلك نقيض للماضوية والجمود والبدائية ولعل التكسب الذي تنطوي عليه ديباجات القصائد المدحية في الممدوحين من الحكام والمسؤولين وأصحاب القرار وذوي الشأن، يجر القصيدة جرّا ويلوي عنقها نحو الماضي السحيق والمهد الأول الذي تقلبت يوم ولدت في حضن الصحراء.
إن القصيدة النبطية لا تستطيع أن تكتشف قصورها إلا في مرآة توأمها القصيدة الفصحى، إذ لابد من قياس المسافة الفاصلة بينهما بلغة القصيدة الثانية في سرعة تطورها ورشاقة نموها وكثرة إمكانياتها وقابليتها للنمو.
فمنذ أطلق عتنرة بن شداد في معلقته الشهيرة : "هل غادر الشعراء من متردم" والقصيدة العربية تعيش حالة من الإنتفاض والثورة على نفسها بحثا عن أفق جديد وولادة قادمة، قال في سياقها حكيم المعرة وشاعرها "إني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تأت قبلي الاوائل"، ومنذ يومها بل ومن قبل ذلك ومن بعده لم تتوقف هذه القصيدة عن الإندفاع نحو مستقبلها الموعود، فعبرت عن فنونها المختزنه وطاقاتها الكامنة في عدد من مراحل التاريخ والاشكال الفنية. ومثال على ذلك ما بلغته القصيدة من رقي ورقة وإكتمال وتجدد في الموشحات الأندلسية خاصة في شعر لسان الدين الخطيب وإبن زيدون وولادة بنت المستكفي، إذ إنعكست الدورات الإنتقالية التي إنتهى إليها مسار العرب من بداوتهم في الصحراء العربية إلى بناء المدن الحضارية الحديثة.
ولم تتوقف تلك الطاقة الشعرية الهائلة المختزنة في القصيدة العربية الفصحى عند حد أو حدود، بل سافرت في كل مراحل التاريخ العربي وتناقلتها الأجيال جيل بعد جيل في سائر الأقطار العربية وبين شعوبها، لكي تعبر عن اللحمة الأبرز من سواها الدّالة على وحدة العرب وارتباطهم بلغة عربية جامعة هي لغة القرآن الكريم والتاريخ العربي الممتد من ذاكرة الصحراء حتى حدود الحلم العربي المفتوح على أفق الإنسانية.
للشعر النبطي مكانة مرموقة في منطقة الخليج خاصة بعد إطلاق برنامج "شاعر المليون"، لكني لا أجد مدخلا للنظر إلى ظاهرة شاعر المليون - إذا صح بتسميتها بذلك الإسم أو إذا صحّ وصفها بالظاهرة نظرا لإنتشارها كالنّار في هشيم الاعلام الخليجي- كالنظر إليها من نافذة توأمها المولود معها حيث تكون التوأمان ونميا وكبرا وعاشا في رحم تاريخي واحد وبطن إجتماعي مشترك وولدا على مسرح إعلامي واحد.
لذلك يمكن أن نرى الواحد منهما في مرآة الاخر، حتى ولو على سبيل التقابل والتضاد، وأعني بالتوأمين سالفي الذكر، توأم الشعر النبطي الذي يتنفس وينمو ويكبر في برنامج "شاعر المليون".
يقابله توأمه الشعر العربي الفصيح، الذي ينمو ويتنفس ويكبر في برنامج "أمير الشعراء"، مع الإعتراف بوجود بعض السمات الخصوصية الفارقة لكل من التوأمين بما يمثل بذرة قابلة للتشكل والنمو لشخصية كل منهما مستقبلا.
فإذا كان الشعر النبطي على مسرح الصحراء التاريخي والإجتماعي، قد عاش مقترنا بتزكية شيخ القبيلة في تدبيج المدائح الشعرية التي تصلح مدخلا للحصول على رضا الممدوح و عطائه المعنوي والمادي وهذا هو الأصل، فإن إنتقال هذا الكائن الشعري من مسرحه البدائي المعكر بغبار الصحراء ومنظومة القيم التقليدية التي كانت متفشية في البيئة البدوية إلى مسرح الإعلام الجديد المتمثل في القنوات الفضائية السابحة في سماوات العالم وشبكاته الإتصالية المعولمة، وهي النقلة التي تتطلب شحذ الهمم الشعرية إلى مستوى كل من النص وصاحبه لتجاوز الأسس البدائية التي كانت تتناسب مع شبكة العلاقات الإجتماعية المتصلة بالقبيلة والعشيرة وبطونها وأفخاذهما.
فالتحدي الحقيقي أمام الشعر النبطي اليوم، هو أن يلتحم بأسس البناء والتفاعل والإندماج في مجتمع الدولة الحديثة، ويخوض غمار الحياة والتطور الذي ينتظره مع جميع العناصر والقوى الفاعلة التي تسهم معه في بناء الدولة الحديثة ومجتمعاتها النامية، لا أن يظل يعيش على هامش الحياة المعاصرة أو بعيدا عنها موغلا في بدائيته حيث قيم الصحراء التي تم تجاوزها في الواقع العربي الراهن.
وهذه سمة ينبغي أن يتنبه لها الشعراء الذين يكتبون نصوصهم من جهة، مثل ما ينبغي أن ينتبه لها النقاد الذين يتصدون لهذه النصوص بالتقييم والتحكيم في اللجنة المحكمة. فما عاد الزمن زمن التكسب بالشعر بقدر ما هو زمن الإجادة وضمان الجودة في كل مجال وفي مقدمتها الشعر الذي هو ديوان العرب وذاكرتهم الحية وموضع السر لديهم في حلهم ترحالهم ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لذلك ينبغي أن يظل الشعر لدى العرب البوصلة الحقيقية الصادقة التي تشير إليهم نحو جهة المستقبل حيث التطور والتحديث والمغايرة، وكل ذلك نقيض للماضوية والجمود والبدائية ولعل التكسب الذي تنطوي عليه ديباجات القصائد المدحية في الممدوحين من الحكام والمسؤولين وأصحاب القرار وذوي الشأن، يجر القصيدة جرّا ويلوي عنقها نحو الماضي السحيق والمهد الأول الذي تقلبت يوم ولدت في حضن الصحراء.
إن القصيدة النبطية لا تستطيع أن تكتشف قصورها إلا في مرآة توأمها القصيدة الفصحى، إذ لابد من قياس المسافة الفاصلة بينهما بلغة القصيدة الثانية في سرعة تطورها ورشاقة نموها وكثرة إمكانياتها وقابليتها للنمو.
فمنذ أطلق عتنرة بن شداد في معلقته الشهيرة : "هل غادر الشعراء من متردم" والقصيدة العربية تعيش حالة من الإنتفاض والثورة على نفسها بحثا عن أفق جديد وولادة قادمة، قال في سياقها حكيم المعرة وشاعرها "إني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تأت قبلي الاوائل"، ومنذ يومها بل ومن قبل ذلك ومن بعده لم تتوقف هذه القصيدة عن الإندفاع نحو مستقبلها الموعود، فعبرت عن فنونها المختزنه وطاقاتها الكامنة في عدد من مراحل التاريخ والاشكال الفنية. ومثال على ذلك ما بلغته القصيدة من رقي ورقة وإكتمال وتجدد في الموشحات الأندلسية خاصة في شعر لسان الدين الخطيب وإبن زيدون وولادة بنت المستكفي، إذ إنعكست الدورات الإنتقالية التي إنتهى إليها مسار العرب من بداوتهم في الصحراء العربية إلى بناء المدن الحضارية الحديثة.
ولم تتوقف تلك الطاقة الشعرية الهائلة المختزنة في القصيدة العربية الفصحى عند حد أو حدود، بل سافرت في كل مراحل التاريخ العربي وتناقلتها الأجيال جيل بعد جيل في سائر الأقطار العربية وبين شعوبها، لكي تعبر عن اللحمة الأبرز من سواها الدّالة على وحدة العرب وارتباطهم بلغة عربية جامعة هي لغة القرآن الكريم والتاريخ العربي الممتد من ذاكرة الصحراء حتى حدود الحلم العربي المفتوح على أفق الإنسانية.
لجنة تحكيم شاعر المليون
وهذا ما جعل هذه الطاقة الشعرية تنفجر في منتصف القرن الماضي عن نبع شعري جديد، على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبقية رواد شعر التفعيلة وصولا إلى ما يسمى بقصيدة النثر، وليس من المعقول بعد كل ذلك أن تتجمد القصيدة النبطية عند النقطة التي بدأت منها في عصور البداوة الأولى على مستوى اللغة بتراكيبها ومفرداتها، وعلى مستوى الإيقاع وزنا وقافية وعلى مستوى الأغراض الشعرية ومطالعها المدحية أو الغزلية، وكأن القصيدة النبطية ليست قاعدة هذه الطاقة الشعرية المتفجرة والمتطورة عبر المراحل والعصور العربية، وليست مسكونة بالممكنات التي تمثلها قصيدة الشعر الفصيح توأمها الملازم، خاصة حين يقترن تقديم هذه القصيدة في برنامج إعلامي ضخم يبث على شبكة القنوات الفضائية في عصر يتسم بالتطورات السريعة في كل منجزاته وعلومه وفنونه.
إننا نعلم بأن شعرية القصيدة في بعدها غير الفصيح، تختزن طاقة هائلة مثل توأمها الشعري الفصيح، إلا أن المتعاملين معها من رجال الإعلام ومعدي البرامج يحصرون هذه الطاقة في شكل واحد من أشكالها المتصل بالبيئة النجدية، بلهجتها المعروفة وطريقة أدائها ومعجمها اللفظي ومن شأن هذا أن يحرم الشعر المكتوب بهذه الطريقة ويجعله سجين قفص شكلي واحد ولهجة عربية واحدة وبيئة عربية محددة.
ولعل أبرز مشاكل هذا النوع من الشعر، ممّا ينبغي أن يضعه الإعلاميون في إعتبارهم تأسيس القول فيه على الجانب الشفاهي لغة ووزنا، بحيث يصعب قراءة هذين الجانبين في القصيدة النبطية لمن لا يعرف أوزانها أو كيف تلفظ أصواتها ومفراداتها، وما يترتب على ذلك هو إنحصار القصيدة النبطية في بيئة عربية محددة دون سائر البيئات الأخرى التي تحتفظ لنفسها أيضا بأنماط خاصة بها.
وهو أمر ينطوي على تقسيم العرب بلغتهم وشعرهم إلى لهجات متباعدة ومختلفة عن بعضها البعض، على عكس ما يبرز في ظاهرة الشعر العربي الفصيح الذي هو غاية الشعر المكتوب باللهجات الدارجة.
إننا نعلم بأن شعرية القصيدة في بعدها غير الفصيح، تختزن طاقة هائلة مثل توأمها الشعري الفصيح، إلا أن المتعاملين معها من رجال الإعلام ومعدي البرامج يحصرون هذه الطاقة في شكل واحد من أشكالها المتصل بالبيئة النجدية، بلهجتها المعروفة وطريقة أدائها ومعجمها اللفظي ومن شأن هذا أن يحرم الشعر المكتوب بهذه الطريقة ويجعله سجين قفص شكلي واحد ولهجة عربية واحدة وبيئة عربية محددة.
ولعل أبرز مشاكل هذا النوع من الشعر، ممّا ينبغي أن يضعه الإعلاميون في إعتبارهم تأسيس القول فيه على الجانب الشفاهي لغة ووزنا، بحيث يصعب قراءة هذين الجانبين في القصيدة النبطية لمن لا يعرف أوزانها أو كيف تلفظ أصواتها ومفراداتها، وما يترتب على ذلك هو إنحصار القصيدة النبطية في بيئة عربية محددة دون سائر البيئات الأخرى التي تحتفظ لنفسها أيضا بأنماط خاصة بها.
وهو أمر ينطوي على تقسيم العرب بلغتهم وشعرهم إلى لهجات متباعدة ومختلفة عن بعضها البعض، على عكس ما يبرز في ظاهرة الشعر العربي الفصيح الذي هو غاية الشعر المكتوب باللهجات الدارجة.


الصفحات
سياسة








