وفي السويداء، تستمر التحركات الشعبية التي كانت في البداية تطالب بالحكم الذاتي للمحافظة، لتتحول مؤخرًا إلى دعوات للاستقلال الكامل عن الحكومة المركزية.
من جهة أخرى، ذهبت “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا إلى خطوات متقدمة، إذ أعلنت في 2014 عن “دستور مؤقت” يضمن حقوق الأقليات والفيدرالية ضمن إطار وحدة سوريا.
مطالب “الفدرلة” أو الحكم الذاتي واللامركزية الإدارية، تحكمها صراعات إقليمية، وضرورات محلية، وهو ملف معقد يتداخل فيه ما هو سياسي وأيديولوجي بما هو أمني واقتصادي، وهو ما تسأل عنه عنب بلدي عددًا من الخبراء في هذا التقرير.
دمشق تتشدد وتلمح للامركزية
شدّد الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، في أكثر من مناسبة على رفض الانفصال بشكل قاطع.وفي لقاء مع وجهاء من إدلب بعد أحداث السويداء، في 14 من آب الماضي، أكد أن المرحلة الحالية تستهدف عودة النازحين ومحاسبة المتجاوزين ومنع محاولات التقسيم أو إنشاء “كانتونات”.
ووصف المطالبين بالتقسيم بأنهم “حالمون وجهلة سياسيًا”، مضيفًا أن هذه الطروحات لا تحظى بدعم دولي، لأنها ستفتح الباب أمام مكونات أخرى في دول مختلفة للمطالبة بخطوات مشابهة.
كما اعتبر الشرع أن مشاريع التقسيم أو التدخلات الإقليمية غير قابلة للتطبيق، بسبب طبيعة المجتمع السوري وكثافة السكان في الجنوب.
وفي 26 من آب، عاد الشرع ليؤكد أن الحلول الممكنة في سوريا تشمل جميع الخيارات المطروحة باستثناء الانفصال، موضحًا أن اللامركزية المنصوص عليها في الدستور تمثل بديلًا عمليًا يحفظ خصوصية المكوّنات ويصون وحدة البلاد، على عكس الفيدرالية التي يُنظر إليها في الوعي السوري كخطوة على طريق التقسيم.
وذكر أن أي محاولات لتقسيم سوريا “لن تجد قبولًا شعبيًا”، داعيًا إلى تسوية وطنية وشراكة سياسية بعيدة عن المحاصصة والانقسامات.
تهديد أم مشروع وطني جامع
الاختلاف حول الفيدرالية لكونها تهديدًا للهوية الوطنية أو مشروعًا جامعًا يعزز المواطنة والانتماء، امتد إلى نقاش سياسي، مع اختلاف في التقدير والأهداف ووجهات النظر.أكد الباحث السياسي نادر الخليل، في حديث إلى عنب بلدي، أن النقاش حول “الحكم الذاتي” في الحالة السورية لا يُختزل في ثنائية “حل أو تهديد”، بل في كيفية تصميمه وضبط حدوده وربطه بمشروع وطني جامع يعيد تعريف الدولة على أساس المواطنة المتساوية وسيادة واحدة متعددة المستويات.
ويتفق معه الباحث والخبير في الحوكمة زيدون الزعبي، الذي أشار إلى أن مصطلح “الحكم الذاتي” يختلف في دلالاته من بلد إلى آخر.
وأوضح الزعبي، في حديث إلى عنب بلدي، أن التجارب الدولية أظهرت أن الإدارة المحلية الموسعة ضمن سيادة الدولة قد تعزز الهوية الوطنية، كما حدث في ألمانيا وإسبانيا والسويد والدنمارك وفنلندا، حيث ساعدت اللامركزية على تقوية الانتماء المحلي دون أن تضعف الوحدة الوطنية الجامعة.
في المقابل، قال الزعبي، إن ربط الحكم الذاتي بمنطق إثني أو طائفي صارم قد يقود إلى نتائج معاكسة، مثلما حصل في بلجيكا، حيث غذّى التنافس الإثني الانقسام، أو في إثيوبيا حيث أسهم النظام الفيدرالي الإثني في إشعال حرب مدمّرة.
أما في العراق، فإن تصميم الفيدرالية أضعف الانتماء العراقي الجامع، حتى كاد أن يلغي الهوية الوطنية في بعض الأقاليم، بحسب الزعبي.
وعليه، فإن الحكم الذاتي ليس وصفة جاهزة بحد ذاته، بل أداة تعتمد نتائجها على جودة التصميم وآليات التنفيذ، فإما أن تتحول إلى رافعة تعزز المواطنة والانتماء الوطني، أو أن تصبح منصة لإضعاف الهوية الوطنية ودفعها نحو التفتت.
المخاوف من التقسيم
المخاوف من التقسيم مشروعة لكنها ليست قدرًا محتومًا، فهي مرتبطة بإرث التجزئة وخطوط التماس الطويلة واقتصاد الحرب، بحسب ما يرى الباحث نادر خليل.وقال الخليل، إن الفرصة قائمة إذا تحقق إطار دستوري مرن، ودمج أمني تدريجي، وتوزيع عادل للموارد، ووحدة سوق وطنية، وسردية سياسية تتجاوز ثنائية الأغلبية والأقليات.
لذا فإن الخطر الحقيقي ليس في اللامركزية بحد ذاتها، بل في ترك الفراغات التنظيمية لتتكلس وتتحول إلى حدود دائمة.
الاختبار الجوهري هو جودة التصميم، فإذا أفرز مواطنة متكافئة تربط المحلي بالوطني عبر قنوات شفافة للمساءلة والموارد فهو حل وطني، أما إذا فشل في ذلك فسيغدو منصة لانفصال زاحف مقنّع، بحسب الخليل.
والنافذة ما زالت مفتوحة، لكن تضييقها مع الزمن يجعل القرار أكثر إلحاحًا، بحسب الباحث نادر خليل، مشيرًا إلى أنه وبالرغم من أن المطالب الراهنة محمولة جزئيًا على ترتيبات مصالح خارجية كالدعم الأمريكي في شمال شرقي سوريا بحجة مواجهة تنظيم “الدولة”، والمظلة التركية في شمال غربي سوريا كترتيبات أمنية، ونوع من لامركزية أمر واقع عبر شبكات اقتصادية- أمنية، في ما يشبه مناطق نفوذ محلي، فإنه لا يوجد تصميم نهائي، وما يجري هو إدارة تجزئة مؤقتة قابلة لإعادة التأطير إذا توفرت إرادة وطنية.
خطر البعد الطائفي الإثني
التحدي المشترك بين دعوات اللامركزية أو الفيدرالية أو حتى الانفصال في شمال شرقي سوريا والسويداء ووسط وغربي سوريا، هو مدى منطقيتها من جهة، والظروف الأمنية والمواقف الإقليمية والدولية غير المشجعة، إضافة إلى موقف دمشق الصريح برفض كل ما يشير إلى طابع فيدرالي أو انفصالي.ويبرز خطر آخر لهذه الطروحات يتعلق بارتباطها بمكونات قومية أو مذهبية، فالمجلس السياسي لوسط وغربي سوريا يتشكل أساسًا من المكون العلوي، بحسب ما أوضحه المتحدث الرسمي للمجلس، كنان وقاف، بينما يرتبط الطرح في السويداء بمستقبل الدروز كمجموعة عرقية أو مذهبية حصرًا، وهو ما يتكرر على لسان شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز في السويداء، حكمت الهجري.
أما في شمال شرقي سوريا، فالمطالبة بحكم ذاتي أو فيدرالية، يتعلق بالدرجة الأساسية بطموحات ثقافية قومية للأكراد.
بناء على ما سبق، يمكن تفسير مخاطر الدعوة للفيدرالية أو الانفصال، وهو ما نبه إليه الباحث زيدون الزعبي، معتبرًا أن المنطق الإثني أو الطائفي قد يقود إلى نتائج معاكسة وحروب.