لهذا، قد يكون هلع هذا الأسبوع فرصة مفيدة للقادة ليلتقطوا الأنفاس ويعمّقوا التفكير بإجراءات التنسيق ما بين الحلفاء كما بالخيارات المتاحة على ضوء الوقائع الميدانية.
الجنرال مارك مايلي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، كرّر دعوته كييف الى استخدام الرافعة العسكرية لمصلحة أوكرانيا في ساحة المعركة للدخول في مفاوضات سلميّة مع روسيا ستكون أكثر لمصلحتها في ظل المعادلة العسكرية الميدانية القائمة. رأي مايلي هو أن إزاحة روسيا كليّاً من الأراضي الأوكرانية لن يكون في متناول زيلينسكي بسهولة، لا سيّما في ضوء تمسك بوتين ومؤسسته العسكرية بمنطقة القرم.
الرئيس بايدن كان مستاءً بعض الشيء هذا الأسبوع من أداء الرئيس زيلينسكي الذي بدا للبعض أنه استعجل في اتهام روسيا بإسقاط الصواريخ على بولندا أثناء قمة مجموعة العشرين في بالي -ومن ضمنها مجموعة الدول السبع المعنية مباشرة بحلف “الناتو”- بهدف حشد المزيد من الدعم لأوكرانيا. مشهد الاختلاف العلني في تشخيص ما حدث لم يكن مطمئناً، بل إن واشنطن استعانت بعواصم “الناتو” لتهدئة زيلينسكي الذي أصرّ في البدء على أنه على حق ثم عاد الى الوراء قليلاً تحت الضغوط الاستخبارية التي أكدت أن الصواريخ ليست روسية.
الكرملين شكر البيت الأبيض على طريقته ومدح حكمة الرئيس بايدن بأسلوبه وأطلق بالونات اختبار بأنه مستعد للتفاوض السلمي لإنهاء الحرب الأوكرانية. الرئيس الأميركي ومستشاره للأمن القومي جيك سوليفان سبق وأكدا أن الأمر عائد الى أوكرانيا لتقرر إذا كانت مستعدّة للتفاوض. هذه رسالة تحمل بين طياتها حض زيلينسكي على التفاوض بدلاً من المضي بحرب قد تتطوّر الى كارثة عالمية. واشنطن تدرك في الوقت ذاته أن سيد الكرملين لن يريد التفاوض على أساس التراجع عن ضم الأراضي الأوكرانية الى روسيا، وأن فلاديمير بوتين ينظر الى التفاوض على أنه هزيمة لن يعترف بها.
كل هذا يعني أن الأسوأ آتٍ على أوكرانيا وروسيا، وأن لا ضمانات للتمكن من احتواء حرب بين روسيا وحلف “الناتو” قد تأتي نتيجة غلطة مدروسة أو حادث مركّب، أو حتى نتيجة غلطة وحادث حقاً. فالرئيس الروسي متمسك بالأراضي الأوكرانية التي ضمّها وتلك التي ينوي الاستيلاء عليها. والرئيس الأوكراني يواجه معارضة شعبية للتخلّي عن أراضٍ أوكرانية من أجل تسوية تفاوضية مع روسيا. وعليه، ليس في الأفق حالياً ما يبشّر بتطويق الحرب الأوكرانية أو بمنع اندلاعها وتوسعها الى حرب عالمية.
ولكن، هناك أفكار لافتة ازداد تبادلها وراء الكواليس في العواصم المعنية بسبب الأزمة البولندية وإمكان المواجهة المباشرة بين “الناتو” وروسيا. هذه الأفكار تميّز، كنقطة انطلاق، بين السعي وراء “وقف النار” وبين السعي الى التوصل الى “معاهدة سلام” بين روسيا وأوكرانيا. ذلك أن معاهدة السلام تتطلّب الاتفاق على الأراضي المتنازع عليها مما هو أمر مستحيل ليس بسبب مواقف كل من الرئيسين فلاديمير بوتين وفولوديمير زيلينسكي وظروفه، وإنما لأن دستور كل من روسيا وأوكرانيا لا يسمح بالتنازلات.
“هذا نزاع بين دستورين” قال أحد المخضرمين في الملفات الروسية – الأوكرانية “ليس بين رئيسين”، وبالتالي ليس في وسع بوتين وزيلينسكي التفاوض على معاهدة سلام تتطلّب منهما التخلّي عن الأراضي. وعليه “وبدلاً من التحدّث عن مفاوضات على اتفاقية سلام مستحيلة، يجب العمل نحو التفاوض والتفاهم على المبادئ والضمانات الأمنية للبلدين والبحث عن صيغ خلاقة تقفز على أزمة الأراضي”، قال المصدر المطّلِع على ما يحدث وراء الكواليس.
وما يحدث يشمل استنباط الخطوات التدريجية التي يمكن أن تؤدّي الى مفاوضات -ليس بين بوتين وزيلينسكي وإنما على مستوى أقل من المستوى الرئاسي- بحيث يمكن، مثلاً، الجمع بين تأكيد قانونية أوكرانية الأراضي من حيث الملكية مع الإقرار بوضعها تحت إدارة روسية.
مصدر مطّلِع أشار الى ما سمّاه “فكرة غربية” تقودها ألمانيا وفرنسا تحت عنوان وقف النار في فترة أعياد الميلاد ورأس السنة بين 20 كانون الأول (ديسمبر) و15 كانون الثاني (يناير) تلاقي مبدئياً موافقة أوكرانية ضمنية رغم الإصرار العلني على النقاط العشر التي أدرجها الرئيس زيلينسكي أمام قمّة العشرين كوثيقة للتفاوض.
ذلك أن هناك في أوكرانيا من يشجع القيادة على الموافقة على وقف النار لأن مستوى الدمار الناتج من الحرب الروسية على أوكرانيا هائل ولأن ما تتوقعه كييف هو تدمير 50 في المئة من البنية التحتية إذا استمر القصف الروسي على ما هو عليه.
في المقابل، القبول بوقف النار صعب جداً على بوتين، لا سيّما أن البعض في المؤسسة العسكرية يعتبره تكراراً لاتفاقية مينسك. وبالتالي، إن القبول بوقف النار قرار سياسي بامتياز عائد الى الرئيس الروسي سيكون رغم إرادة المؤسسة العسكرية.
هناك دول تعارض اندفاع حلف الناتو “لإخراج” روسيا من أوروبا وإصرار بعض أعضاء الحلف على إلحاق الهزيمة الساحقة بروسيا وإزالة فلاديمير بوتين من السلطة. مواقف هذه الدول الكبرى كانت واضحة في قمّة بالي التي تجنّبت المواجهات السياسية. فالصين والهند وأندونيسيا تتحفظ عن سلوك “الناتو” وهي لربما وجدت في مواقف زيلينسكي تهوّراً كاد يكون مصيريّاً.
الحرب الأوكرانية فرضت نفسها على قمّة العشرين من البوابة البولندية وكذلك من باب المخاوف النووية. القمّة الثنائية بين الرئيس الأميركي والرئيس الصيني شي جينبينغ كانت توافقية في توجيه رسالة مشتركة الى الرئيس الروسي بأن التهديدات النووية غير مقبولة للطرفين.
الإبحار الدقيق لتفادي المواجهة كان عنواناً جليّاً في القمة الأميركية – الصينية. فالرئيسان تمسّكا بمواقفهما التقليدية المتباعدة إزاء أمور عدة من تايوان الى الاقتصاد الى المنافسة على الزعامة الاستراتيجية. ما تجنباه هو نبرة التصدّي والتحدّي والتصعيد. بايدن تحدّث بلغة إدارة التنافس وتفادي الصراع. هناك اختلاف في المواقف والآراء، قال بايدن لكنه أكد أنه لا يعتقد ان الولايات المتحدة والصين قد دخلتا “حرباً باردة جديدة”.
كان ذلك أول لقاء بين الرجلين كرئيسين، نجح في بعث رسائل الاستعداد للحوار لمعالجة الاختلافات – ومن هذا المنطلق كانت القمّة مطمئنة كما كانت مفيدة للرئيس بايدن لجهة إبراز حكمة إدارة التنافس وتفادي الصراع مع الصين.
محطة بالي بمجملها كانت لمصلحة الرئيس الأميركي، إذ برز منها قائداً جديّاً عاقلاً في خضمّ الأزمات الكبرى. لم يتسرّع في مسألة الصواريخ على بولندا التي كان يمكن لها أن تغيّر كامل المعادلة في الحرب غير المباشرة بين روسيا ودول حلف “الناتو”. ولم يزايد على نظيره الصيني، بل كانت نبرة الرئيس بايدن حازمة في ليونتها وليّنة في حزمها.
لعل السيد بايدن نجح في امتحان مهم لجهة كيفية تناوله السياسة الخارجية الأميركية مع الرئيس الصيني، كما مع قادة دول “الناتو” ومجموعة الدول السبع عندما كان عليه التصرّف عقلانياً إزاء أزمة بولندا، فتصرّف كقائد الدولة العظمى في العالم.
في المقابل، كان الرئيس السابق دونالد ترامب يخوض معركة داخلية فرضتها عليه الانتخابات النصفية التي لم تأتِ في مصلحته، بل إنها كشفت ضعفاً بنيوياً قد يؤثر جذرياً في طموحاته الرئاسية. لم يتقدم في إعلانه الكبير لجهة السياسة الخارجية سوى بانتقاد أداء إدارة بايدن عند الانسحاب الأميركي الاعتباطي من أفغانستان. فالسيد ترامب ربط استعادة عظمة أميركا بالسيد ترامب في البيت الأبيض مجدّداً، ولم يتقدم ببرنامج القيادة العالمية، كما كان مرتقباً.
الانتخابات النصفية شحّلت الكثير من التطرف في المعسكرين الجمهوري والديموقراطي فأتت برسالة شعبية خلاصتها أن الأميركيين في حاجة اليوم الى العقلانية والبراغماتية والحكمة. فهذه فترة صعبة جدّاً نظراً الى التدهور الاقتصادي العالمي كما بسبب استمرار الحرب الأوكرانية ووطأتها على المعادلة الجغرافية – السياسية العالمية.
فالعالم في قلق. حدث الأسبوع الماضي أيقظ الرعب من حرب عالمية ثالثة كادت تندلع من بولندا. احتواء الخوف مفيد بالتأكيد. إنما ما يجب عدم تجاهله هو أن حدث الصواريخ على بولندا ليس عابراً وإنما هو رسالة بالغة الجديّة لما هو آتٍ في المستقبل يوماً ما بموجب حادثٍ أو بموجب قرارٍ مصيري.
فإدارة الأزمات ضرورية لكنها ليست البديل من المعالجة الاستراتجية لحروب سائبة في زئبقية الانزلاق.
النهار العربي