نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

عن روسيا وإيران شرق المتوسّط

08/05/2024 - موفق نيربية

( في نقد السّياسة )

05/05/2024 - عبد الاله بلقزيز*

أردوغان.. هل سيسقطه الإسلاميون؟

03/05/2024 - إسماعيل ياشا

" دمشق التي عايشتها " الغوطة

28/04/2024 - يوسف سامي اليوسف

( أيهما أخطر؟ )

24/04/2024 - محمد الرميحي*

إيران.. من يزرع الريح يحصد العاصفة

23/04/2024 - نظام مير محمدي

وقاحة استراتيجية مذهلة

21/04/2024 - راغدة درغام


صباح طرابلس الأول بعد الانتخابات: مشهد الثأر






الرابعة فجراً، بلا نوم، أنهض وانطلق إلى طرابلس. أجتاز جبيل، مع انبلاج الضوء الأول. البحر على ميسرتي غارق في ليله، والجبال على ميمنتي تمسحها الخيوط الأولى للنهار. أخبار الراديو تردد اسم أشرف ريفي، بلا انقطاع. أكبر مفاجأة في الانتخابات البلدية بلبنان


  عند الخامسة والربع، أصل المدينة. صور أشرف ريفي في كل مكان، أو هكذا خيّل إلي إذ لم أعد انتبه لصور "الزعماء" الآخرين. "لا للمحاصصة" ، "واثق الخطوة يمشي ملكاً"، "يا جبل ما يهزك ريح".. هذه بعض الشعارات المطبوعة على صور أشرف ريفي، والكثير منها ذُيلت بعبارة "تقدمة: المغتربون في أستراليا"، في إشارة إلى دعم أولئك المغتربين الطرابلسيين للوزير المستقيل، "المتمرد" على "تيار المستقبل". إشارة لا تخلو من دلالات سياسية قوية. فمعظم الذين هاجروا من عاصمة الشمال إلى البلاد الأسترالية هم خصوصاً من الشبان الذين تعرضوا للتنكيل والاضطهاد على أيدي النظام السوري ومخابراته في الثمانينات ومطلع التسعينات. وربما يتوجب التذكير هنا بمحاولة "النظام الأمني" اللبناني – السوري، إلصاق تهمة اغتيال رفيق الحريري بمجموعة من الشبان الحجاج الطرابلسيين المغتربين في أستراليا.
أدخل دكاناً لبيع القهوة. يبادرني البائع: "شو يا استاذ؟ كم مقعد صاروا؟"، أجيبه: لا أدري، ربما 16 مقعداً للائحة ريفي. ما رأيك؟ يقدم لي القهوة ويكمل: لا أحبهم جميعاً، لا أثق بأي سياسي، خصوصاً سعد الحريري، لكن أشرف ريفي يستحقها، رجل يقيم بيننا، بيته مفتوح.. وأحسن ما فيه أنه ليس ثرياً يمنّ علينا، ولا يكذب علينا، الله يستر يمكن يقتلوه.
أخرج متجولاً في الشوارع الخالية. فجأة، يظهر شاب أمامي، وبلا مقدمات ولا تحية صباحية، وكأنه عرف أني صحافي، يبتسم معلناً بوجهي: يا أستاذ، 18 مقعداً لأشرف ريفي... استوقفه: لماذا برأيك حدثت هذه المفاجأة؟ فيجيب: "طرابلس شبعت زعبرة، بعد كل هذه السنوات والمشاكل بدهن يقنعونا بميقاتي وسليمان فرنجية ويمكن رفعت عيد معهم؟ أشرف ريفي إسم على مسمى: أشرف الناس". ويضيف: قبل الظهر سيذهب الشباب إلى منزله، هل ستأتي؟ سنصلي في المسجد الذي فجّره العلويون قرب بنايته.
أصل إلى محل الحلويات الشهير. طاولة واحدة تجمع رجال أمن بثياب مدنية ومسدسات على الخصر وأجهزة لاسلكي، يتناولون الكنافة. أجلس قبالتهم وأبادلهم التحية: يعطيكم العافية.. كيف كانت الانتخابات؟ فيجب أحدهم فوراً: "هو كان قائدنا وهو وزيرنا، وهو يللي بيستاهل.. الله يرحم وسام الحسن".
أتوجه إلى ساحة التل، هناك تبدأ الحركة الأولى للمدينة. عشرات سائقي التاكسي يتوزعون الساحة يتحادثون ويشربون القهوة. تطن في أذني عبارة "الشيعة يذبحون أهل السنّة في سوريا". الكلام كله هكذا، بلا تشذيب ولا مداورة. أحدهم يقول: "نجيب ميقاتي مفكر طرابلس دار لرعاية الأيتام، أو أن أهلها بحاجة لدورة تطريز أو درس كمبيوتر.."
الأسواق العتيقة مقفلة، إلا دكاكين الفول والمخابز ومعامل الحلويات الصغيرة. حركة العتّالين تنشط عند مدخل سوق الخضار. أنتبه إلى تلك التكايا الصوفية، عمارات المدارس الدينية المملوكية، المسجد الذي يخضع للترميم والذي تم بناؤه عام 1316م، سبيل الماء العثماني، البوابات الخشبية الأثرية، المصممة لعبور الفرسان بخيولهم. ثم روائح الصابون وعبق البهارات، وباحات الخانات المتهالكة أو المرممة، الأدراج الحجرية، والمداخل الضيقة المظلمة، والنوافذ المنمنمة وطيور الحمام. كأني أدخل زمناً آخر، لكنه غير متخيل، تاريخي ومستمر، هو على الأرجح ما يمنح طرابلس هوية أبعد من لبنان، هوية "المدينة الإسلامية"، بل ويمنحها جغرافيا أخرى أوسع من لبنان، جغرافيا مفتوحة على بلاد الشام.
ربما من هذا الفارق بين هذه المدينة وبقية المناطق اللبنانية، تأتي قوة تلك العبارة التي قالها السائق الطرابلسي عن ما يجري في سوريا. طرابلس ليست "هنا" وجدانيا وعاطفيا، بل "هناك"، في قلب الاضطراب الرهيب الذي يعصف ببلاد الشام. لا تعنيها على الأرجح تلك الحسابات اللبنانية من نوع الذي اضطرت إليه النخبة السياسية، من تدوير الزوايا ومهادنة الخصوم وإدارة الخلافات، لا تعني الشارع الطرابلسي "مراضاة" المسيحيين ومسايرتهم. لا يطيق ولا يتفهم محاباة "حركة أمل" ورئيسها نبيه برّي، لا يتقبل ترشيح سليمان فرنجية "شقيق بشار الأسد" وحليف رفعت عيد. والأهم أنه يشعر بعداوة عميقة لـ"حزب الله".
تلك هي الفجوة التي فصلت بين دبلوماسية "تيار المستقبل" والمزاج الطرابلسي، وعرفها أشرف ريفي وقالها وحمل نبضها المستنفر. ما فعله أشرف ريفي أنه لم يلعب دور المحسن وموزع الإعانات والمساعدات الخيرية على طريقة ميقاتي – الصفدي، ولم يتبنَ خطاب سعد الحريري التوفيقي بمنطق المحاصصة والمهادنة. لقد تبنى الغضب والنقمة ومشاعر الخيبة والكرامة المجروحة.
بهذا المعنى، بدت طرابلس مع ريفي، لا تقترع وحسب بل تعلّق المشانق.
المفارق أيضاً، أن لائحة "لطرابلس" التوافقية (ميقاتي، كرامي، الصفدي، الحريري) بدت بشعاراتها وصورها وأسمائها وبرنامجها، تقليداً سطحياً إلى حد بعيد لظاهرة "بيروت مدينتي" المدنية، ظناً منها أن جاذبية تلك الظاهرة في العاصمة الأولى تنطبق على العاصمة الثانية! وهو خطأ فادح يدل على أن "صنّاع" الحملة الانتخابية ليسوا من سكان طرابلس، بل ممن يقيمون في "الداون تاون" وفردان وعين التينة..
في باب التبانة، نواة الوجدان الطرابلسي وقاعها الشعبي وزخمها المتمرد والمقاتل دوماً، كان المشهد الوحيد هو طوفان صور أشرف ريفي ومرشحيه. مشهد ثأري بامتياز.

يوسف بزي
الاربعاء 1 يونيو 2016