نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

المثقف من قرامشي إلى «تويتر»

24/05/2025 - د. عبدالله الغذامي :

التانغو" فوق حطام المنطقة

22/05/2025 - عالية منصور

واقع الديمقراطية في سورية الجديدة

09/05/2025 - مضر رياض الدبس

(سوريا بين حرب أهلية ومشاريع تقسيم؟)

05/05/2025 - عبدالوهاب بدرخان

دلالات التصعيد الإسرائيلي في سوريا

04/05/2025 - العميد المتقاعد مصطفى الشيخ

السياسة المزدوجة

25/04/2025 - لمى قنوت


في مديح الحلم والفصاحة الي يحبها أهلنا في السويداء





منذ أكثر من خمسة عشرة سنة حتَّى وقتنا الرَّاهن، كلَّما قرأت قصَّة من قصص الفصاحة العربيَّة تذكَّرتُ أهلنا في السُّويداء؛ وذلك لأنَّني في العام الدِّراسيِّ 2009-2010 كنتُ مشرفًا على مراجعة أوراق امتحانات اللُّغة العربيَّة في اختبارات الشَّهادة الثَّانويَّة في محافظة إدلب، وأذكر يومها أنَّ أساتذة إدلب ومعلِّميها صحَّحوا أوراق الامتحانات لمحافظة السُّويداء ومحافظة سوريَّة أخرى، حيث بدأنا بتصحيح أوراق المحافظة الثَّانية، وكنَّا نحتال لمساعدة الطَّالب صاحب ورقة الامتحان بسبب صرامة سلالم التَّصحيح، بحثنا عن الدَّرجتين أو ثلاث الدَّرجات في موضوع التَّعبير أو شرح الأبيات الشِّعريَّة؛ لنضيفها إلى مجموع درجات الطَّالب؛ كيلا يرسب في عامه الدِّراسيِّ، أو كيلا يفقد فرصته بالحصول على درجة الاختصاص في الأدب العربيِّ، أو كيلا يفقد قدرته على المنافسة على كلِّيَّة الطِّبِّ البشريِّ أو الصَّيدلة بسبب تفصيلات دقيقة أو بسيطة في أجوبة اللُّغة العربيَّة.


 
ثمَّ انتقلنا إلى تصحيح اختبارات محافظة السُّويداء، وبدا التَّفوُّق واضحًا في أجوبة طلَّاب محافظة السُّويداء عمومًا، وفي شرح الأبيات الشِّعريَّة وكتابة موضوع التَّعبير الأدبيِّ على وجه التَّحديد، كانت معظم الأوراق الامتحانيَّة منظَّمة وأنيقة، كانت أجوبة رصينة، وجُملها وعباراتها رزينة، قادتنا إلى المناقشة حول أسباب هذا التَّفوُّق والتَّشابه الكبير بين أجوبة المتميِّزين من طلَّاب محافظة السُّويداء وأجوبة المتميِّزين من محافظة إدلب.
ورأى بعض المناقشين أنَّ هذه الفصاحة قد تعود إلى جينات وراثيَّة تنوخيَّة قديمة ومشتركة، فمعظم قبائل إدلب وعشائرها وبدوها وحضرها يرجع نسبهم إلى قبيلة تنوخ العربيَّة؛ أي إلى قبيلة أبي العلاء المعرِّيِّ شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشُّعراء، ورأينا شيئًا من فصاحته وفسلفته في أجوبة الطُّلَّاب المتميِّزين في إدلب والسُّويداء معًا، ورأى مناقشون آخرون أنَّ الذَّكاء اللُّغويَّ شكل عالٍ من أشكال الَّذكاء، الَّتي تعطي انطباعًا عن التَّفكير المنظَّم والأخلاق العالية، وتوسَّع النَّقاش إلى الحديث عن التَّشابه في اللَّهجة والفصاحة ومخارج الحروف وأغاني الأفراح وأهازيج الأعراس الشَّعبيَّة بين محافظة إدلب ومحافظة السُّويداء، وشاهدنا بعضًا من الأشعار والأغاني والمهرجانات الخطابيَّة المنشورة في موقع اليوتيوب، وكانت تؤكِّد مجمل الأفكار الَّتي تحدَّثنا عنها، ودُعم هذا الحديث بنقاقشات مع أهلنا من سُكَّان القُرى الدُّرزيَّة في ريف إدلب الشِّماليِّ أيضًا.
معن بن زائدة في السُّويداء
لديَّ أصدقاء وصديقات من محافظة السُّويداء، تحدَّثتُ مع بعضهم عن هذا التَّشابه المذكور في مقدِّمة المقال بين المحافظتين، وكنَّا كلَّما أخذتنا شجون الأحاديث أنا وصديقاتي وأصدقائي شعرنا بمزيد من الألفة والمحبَّة بيننا، أقول هذا الآن، وأنا أقرأ قصَّة وخبرًا عاجلًا عن استقالة مصطفى البكُّور محافظ مدينة السُّويداء، أمَّا القصَّة أو القصص؛ فهي أخبار تراثيَّة تتحدَّث عن حِلم معن بن زائدة، الَّذي ميَّزه حلمه هذا ومكارم أخلاقه من غيره من أصحاب الرُّعونة والانفعالات، فأحبتت أن أروي أخباره؛ لأتشارك متعة قراءتها مع أهلنا في الجمهوريَّة العربيَّة السُّوريَّة ولذَّة عبرتها مع كثير من أهلنا المشهورين بفصاحتهم وأخلاقهم العالية في السُّويداء.
تروي الأخبار أنَّ أعرابيًّا قَدِمَ على معن بن زائدة، وهو أمير على العراق، وكان الأعرابيُّ قد سمع الشَّيء الكثير عن كرم معن بن زائدة وحلمه؛ فلمَّا وقف أمام معن قال:
أَتَذْكُرُ إذ لحافك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعيرِ
فقال معن: أذكر ذلك، ولا أنساه. وأراد الأعرابيُّ في شعره تذكيرَ معن بن زائدة بما كان عليه من شظف العيش وقلَّة ما في اليد قبل أن أصبح أميرًا حَسَنَ الحال، ثمَّ قال الأعرابيُّ:
فسبحان الَّذي أعطاك مُلكًا وعلَّمكَ الجلوسَ على السَّرير!
فقال معن: سبحان الله! فقال الأعرابيُّ:
فلستُ مسلِّمًا إن عشتُ دهرًا على معنِ بتسليم الأميرِ
فقال معن: يا أخا العرب! السَّلام سُنَّة، وشأنَك في الأمير!
فقال الأعرابيُّ:
سأرحلُ عن بلاد أنت فيها ولو جار الزَّمانُ على الفقير
فقال معن: يا أخا العرب! إن جاورتَنا فمرحبًا بك، وإن رحلتَ فمصحوبًا بالسَّلامة؛ فقال الأعرابيُّ:
فجُد لي يا بنَ ناقصةٍ بشيءٍ فإنِّي قد عزمتُ على المسيرِ
فقال معن: أعطوه ألف دينارٍ يستعين بها على سفره؛ فأخذها الأعرابيُّ، وقال:
قليلٌ ما أتيتَ به وإنِّي لأطمع منك بالمال الكثير
فقال معن: أعطوه ألفًا آخر! فأخذها الأعرابيُّ، وقال: سألتُ الله أن يُبقيكَ ذُخرًا فما لكَ في البريَّة من نظير
فقال معن: أعطوه ألفًا آخر! فقال الأعرابيُّ: يا أمير المؤمنين ما جئتُ إلَّا مُختبرًا حلمَك لِمَا بلغني عنه؛ فقد جمع الله فيك من الحلم ما لو قُسِم على أهل الأرض لكفاهم!
فقال معن: يا غلام! كم أعطيتَه على نظمه؟ قال: ثلاثة آلاف دينار؛ فقال أعطه على نثره مثلها!
المروءة وإغاثة الملهوف عند معن بن زائدة
لمعن بن زائدة قصص تراثيَّة مشهورة في الكرم والمروءة وحسن الجوار وإغاثة الملهوف، وكان أوَّل أمره ضدَّ العبَّاسيِّين، ومدحه مروان بن أبي حفصة كثيرًا، ثمَّ اختفى مدَّة، وظهر ملثَّمًا بعمامته، وتقدَّم يقاتل أمام الخليفة العبَّاسيِّ المنصور حتَّى فرَّق القوم عنه؛ فقال له المنصور: من أنت؟ فقال: أنا طِلْبَتُكَ يا أمير المؤمنين! أنا معن بن زائدة! فأمَّنه المنصور، وأكرمه، وصار من خواصِّه! ثمَّ دخل عليه ذات يوم بعد ذلك؛ فقال له: هيه يا معن! تُعطي مروان بن أبي حفصة مئة ألف درهم على قوله:
معنُ بن زائدة الَّذي زيدت به شرفًا على شرفٍ بنو شيبان
فقال معن: كلَّا يا أمير المؤمنين؛ إنَّما أعطيتُه على قوله في القصيدة:
ما زلتَ يوم الهاشميَّة معلِنًا بالسَّيفِ دون خليفة الرَّحمنِ
فمنعتَ حوزتَه وكنتَ وقاءَه من وقُعِ كلِّ مهنَّدٍ وسِنانِ
فقال المنصور: أحسنتَ يا معن! وقال له المنصور يومًا: ما أكثرَ وقوعَ النَّاس في قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:
إنَّ العرانينَ تلقاها مُحسَّدةً ولا ترى للئام النَّاس حسَّادًا
وللشَّاعر مروان بن أبي حفصة قصيدة في مدح معن بن زائدة تربو على السِّتيِّن بيتًا، وهي القصيدة اللَّاميَّة، الَّتي فُضِّل بها مروان على شعراء زمانه؛ يقول فيها يمدح بني مطرٍ آل معن:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دُعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
وما يستطيع الفاعلون فَعَالهم وإن أحسنوا في النَّائبات وأجمعوا
بَهاليلُ في الإسلام سادوا كأوَّلِهم في الجاهليَّة أوَّلُ
ولمَّا قُتِل معن رثاه الشُّعراء، ومنهم مروان بن أبي حفصة رثاه بقصيدة أوَّلها: مضى لسبيله معنٌ وأبقى مكارمَ لن تبيدَ ولن تُنالا
وهي مشهورة وطويلة. ويُقال: إنَّ مروان بن أبي حفصة دخل على جعفر البرمكيِّ؛ فقال له: أنشدني من مَرْثيَّتك في معن؛ فأنشده القصيدة؛ فجعل جعفر يرسل دموعَه على خدَّيه؛ فلمَّا فرغ مروان من الإنشاد؛ قال له جعفر: هل أثابك على هذه المرثيَّة أحدٌ من أولاده وأهله شيئًا؟ قال: لا، قال جعفر: لو كان معن حيًّا، ثمَّ سمعها منك، كم كان يثيبك عليها؟ قال مروان: أصلح الله الوزير! أربمئة دينار؛ قال جعفر: إنَّا نظنُّ أنَّه كان لا يرضى بذلك؛ فقد أمرنا لك عن معن-رحمه الله-بالضِّعف ممَّا ظظنتَ، وزدناك نحن مثل ذلك؛ فاقبض من الخازن ألفًا وستَّمئة دينار!
ويُقال: إنَّ مروان بن أبي حفصة لم ينتفع بشعر بعد هذه القصيدة؛ فإنَّه كان إذا مدح خليفة أو أميرًا قيل له: أنتَ قلتَ في مرثيَّتك:
وقلنا أين نرحلُ بعد معنٍ وقد ذهب النَّوال فلا نوالًا!
ومن المراثي المشهورة في معن مرثيَّة الحسين بن مطير:
أَلِمَّا على معنٍ وقولا لقبره سقتكَ الغوادي مَرْبَعًا ثمَّ مربعًا
فيا قبرَ معنٍ أنتَ أوَّلُ حفرةٍ من الأرض خُطَّت للسَّماحة مَضجعًا
ولمَّا مضى معن مضى الجود فانقضى وأصبحَ عرنين المكارم أجدعا
أعتقدُ أنَّ مجمل ما ذكرناه من أخبار معن بن زائدة لا يحتاج إلى شرح أو تعليق؛ فالتُّراث العربيُّ حافل بالأخبار الَّتي تُعلي شأن الحكمة والصَّبر والتَّروِّي وتدين العجلة والتِّسرُّع والطَّيش والانفعال، وفي غالب الأحيان-وبرغم كلِّ ما يثار-ينتصر في النِّهاية صوت الحكمة، ويعلو شأن الصَّابرين من أصحاب العقل والمنطق!

مهنا بلال الرشيد – تفاصيل برس
السبت 24 ماي 2025