البراغماتية الايرانية سمحت بالانتقال من سياسة المواجهة التي كادت تصل عام 1997 الى المواجهة العسكرية بعد قتل احد عشر دبلوماسيا ايرانيا في مزار شريف، الى سياسة الاعتراف بهذه الحركة كمكون اساسي في الحياة السياسية الافغاني واعتبار اللجوء الى العمل المسلح اسلوباً خاطئاً اعتمدته هذه الحركة من اجل تحقيق اهدافها السياسية، وان تتبنى سياسة اعادة دمج هذه الحركة بالعملية السياسية على اساس المشاركة الفاعلة التي تؤسس لبناء سلام دائم ومستقر مع الحكومة الرسمية يأتي نتيجة نبذ هذه الحركة للممارسات الارهابية لفرض وجودها في افغانستان. وفي هذا الاطار وقفت طهران موقفاً منتقداً من الآلية التي اتبعتها ادارة ترمب في مباحثات السلام مع طالبان لاستثنائها او استبعادها الحوار الداخلي الافغاني واعتباره موضوعاً يمكن ان تعمل على تسهيله بين الطرفين في المرحلة التالية للاتفاق مع طالبان. ما دفع طهران للعمل وبذل الجهود لسد هذا الفراغ الذي يهدد استقرار هذا البلد ويقود الى امكانية حصول دورة عنف جديدة وقاسية بينهما، فعملت على تدوير زوايا الخلافات بين الحكومة الافغانية التي لم تصادق على الاتفاق بذريعة عدم مشاركتها في سياقاته وبين حركة طالبان.
رغبة طالبان بالبحث عن بدائل للعب دور في التوصل الى تسوية داخلية مع الحكومة، سمح لطهران باعادة تفعيل جهودها مستفيدة من تشكيك طالبان في النوايا الامريكية بعد الكشف عن نيتها اعادة تقويم الاتفاق الذي صب في مصلحة كابول ورحبت به حكومة الرئيس أشرف غني ، خصوصا وان الطرفين لم يلتزما بالشروط التي تؤسس لبناء ثقة بينهما، اذ لم تلتزم الحكومة بتنفيذ شرط اطلاق سراح معتقلي الحركة في سجونها، في المقابل لم توقف الحركة هجماتها على القوات الحكومية والعمليات العسكرية في مناطق سيطرة الاخيرة، بينما التزمت بوقف الهجمات ضد القوات الاجنبية وتحديداً الامريكية في مناطق نفوذها. فضلا عن ان طهران تحاول ان تدفع طالبان للحفاظ على التزامها باتفاق السلام مع واشنطن وسحب الذرائع منها لتعطيل عملية سحب قواتها من هذا البلد بعد نحو خمسة اشهر حسب ما نص الاتفاق الذي حدد مدة 14 شهرا للانتهاء من هذه الخطوة من تاريخ التوقيع (فبراير/ شباط 2020).
وتحاول طهران التي وعدت بعد الخسارة التي لحقت بها نتيجة عملية الاغتيال لقائد قوة القدس الجنرال قاسم سليماني بالقرب من مطار بغداد بان يكون الثمن الذي ستدفعه واشنطن هو خروج قواتها من منطقة غرب آسيا، تحاول ان تدفع كلاً من طالبان والقوى السياسية الحليفة لها في العراق للالتزام بالسياقات السياسية والقانونية التي قامت بها لتحقيق هذا الهدف، ففي الوقت الذي تسعى فيه لترتيب البيت الداخلي الافغاني بين طالبان والحكومة والذي يساعد على تضييق المجال امام ادارة الرئيس الامريكي لتعديل شروط اتفاق السلام، فانها تدفع بالقوى العراقية للضغط على الحكومة في بغداد لتنفيذ القانون الذي اقره البرلمان والذي التزم الحكومة بوضع آليات خروج القوات الامريكية من هذا البلد. لان تحقيق تقدم على هذين المسارين يقربها – طهران – من تحقيق هدفها ويبعد عنها شبح الدخول في مواجهة عسكرية او تحميلها مسؤولية اي عمليات ضد هذه القوات، ويخفف من الحرج الأخلاقي الذي قد تواجهه داخليا وامام حلفائها في حال لم تنفذ وعودها بالانتقام لعملية الاغتيال هذه.
هذه الجهود التي تبذلها طهران، لتكون قناة تواصل وتفاهم بين حركة طالبان والحكومة الافغانية تطرح سؤالا مفصليا حول دورها في هذه الازمة، خصوصا مع عودة طالبان للتلويح بالعودة الى ما قبل اتفاق الدوحة نتيجة الموقف الامريكي المستجد من الاتفاق، وهل تسعى طهران للعب دور المنقذ لهذا الاتفاق، بما يخدم مصالحها في اخراج الامريكية عن حدودها الشرقية عبر اقناع طالبان بتنفيذ شروطه الداخلية والمصالحة مع الحكومة. بحيث تكون بديلاً افغانياً من واشنطن؟
-------
المدن