لقد ترجمت حكومة دمشق رغبتها تلك، من خلال أول لقاء بين الرئيس أحمد الشرع وقائد "قسد" مظلوم عبدي، في مطار الضمير العسكري خلال شهر شباط/فبراير الماضي، وقد استطاع أن يمهّد هذا اللقاء غير الرسمي، إلى لقاء العاشر من آذار/مارس في دمشق، حيث أصدر الطرفان وثيقة تضمنت عدة بنود توافقية، الغاية منها هي المضي في مسار تفاوضي من شأنه أن ينتهي باندماج قوات "قسد" ومؤسسات الإدارة الذاتية، بالحكومة المركزية السورية، وقد حظي لقاء آذار بتشجيع دولي واضح، خصوصاً من جانب واشنطن وباريس، وذلك ضمن توجه دولي عام يؤيد ويدعم سوريا بلداً موحّداً.
وفي هذا السياق وجهت الإدارة الأميركية رسائل متواترة إلى "قسد"، مفادها أن المخرج الأمثل لقوات سوريا الديمقراطية هو انخراطها في كيان الدولة السورية، الـمر الذي يعني وجوب تخلّي قسد عن مشروعها السياسي الرامي إلى قيام كيان كردي في شمال شرق سوريا، وقد أفضى هذا التوجه الأميركي-الأوروبي إلى إقدام "قسد" على توقيع اتفاقين لاحقين، واحد بخصوص حيي الأشرفية والشيخ مقصود، في مدينة حلب، والثاني حول سد تشرين، الواقع جنوبي مدينة منبج بمسافة 15 كيلومتر، وكان من المفترض أن يستمر هذا المسار التفاوضي الذي لقي قبولاً شعبياً سورياً واسعاً، أملاً بالخروج من حالة الانقسام والتشظي، والوصول إلى حالة من الاستقرار الأمني والاجتماعي في عموم الجغرافيا السورية.
مؤتمر القامشلي والعودة إلى الوراء
انعقد لقاء جمع طيفاً واسعا من القوى الكردية في مدينة القامشلي، بدعوة وإشراف من "قسد"، خلال نيسان/أبريل الماضي، وقد أصدر المؤتمرون في نهاية اللقاء وثيقة تتضمن تاكيداً على المطالبة بإقامة نظام حكم لامركزي في سوريا، كما تؤكد الوثيقة رفضها للإعلان الدستوري الذي أصدرته الحكومة السورية لأنه يخلو من مشاركة عادلة للأكراد، وفقاً لبيان القامشلي الذي تضمن أموراً أخرى أثارت استياء حكومة دمشق التي ردّت على بيان القامشلي ببيان يبدي استنكاراً ورفضاً للمطالب الكردية كما جاءت في وثيقة المؤتمر المذكور، ومنذ ذلك الحين تراجع مسار التفاوض بين الطرفين، وبدأت "قسد" تماطل في التواصل مع حكومة دمشق، في مسعى يهدف إلى كسب الوقت وممارسة المزيد من الضغوطات على الحكومة المركزية لتحصيل أكبر قدر من المكاسب.
في 9 تموز/يوليو الماضي، التقى وفد من "قسد" في دمشق بوفد من الحكومة المركزية، في محاولة لدفع عملية التفاوض من جديد، وذلك بحضور المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس باراك، وكذلك بحضور وتمثيل فرنسي. وعلى الرغم من التأكيد الذي تضمنه البيان الصادر عن اللقاء فيما يخص ضرورة استمرار الحوار عبر اللجان المشتركة، إلّا أن اللقاء لم يحمل أي نتيجة إيجابية، ويمكن الذهاب إلى أن ثمة مسألتين جسّدتا جذر الخلاف بين الطرفين، وهما:
أولاً، إصرار "قسد" على أن يكون نظام الحكم في سوريا لامركزياً سياسياً، وهو ما تعتبره الحكومة السورية مشروعاً يمهّد لخطوة انفصالية في المستقبل.
ثانياً، في سياق اندماج قوات "قسد" بوزارة الدفاع السورية، تصرّ "قسد" على أن تحافظ على بنيتها التنظيمية وهيكليتها الإدارية، كما تصرّ على أن تحافظ على انتشارها العسكري وتموضعها الجغرافي الراهن، وبذلك يكون انضمامها إلى وزارة الدفاع مسألة شكلية فقط، وهذا ما ترفضه الحكومة السورية أيضاً، وترى فيه مشروعا يمثّل دولةً داخل دولة.
وفي سياق موازٍ فإن عبد الله اوجلان، مؤسس وزعيم حزب العمال الكردستاني والأحزاب التي تنضوي تحته، ومن خلال التحول السياسي الذي يقوده في النسق التركي، وذلك بتخفيضه لسقف المطالب السياسية من قومية إلى حقوقية دستورية، وظهوره بتسجيل مصور هو الأول له منذ اعتقاله عام 1999، حاول توجيه رسالة لقادة قوات سوريا الديمقراطية والإدارة الذاتية، بإزالة كل الشعارات والعوائق الفكرية والأيديولوجية التي كانت تتحكم بسياسة هذا التنظيم منذ تأسيسه.
تصريحات أوجلان عبّدت الطريق ووسعته أمام مظلوم عبدي ورفاقه باتجاه دمشق والانتقال من الانفصال عن الواقع الى واقعية المتغيرات الإقليمية والدولية الجديدة في المنطقة وفي سوريا، إلا أنه من الواضح أن أوجلان خلال فترة سجنه التي تجاوزت الـ26 عاماً، لم يعد هو صاحب القرار الحقيقي النافذ في منظومة المجتمع الكردي.
ولمعرفة سبب فشل المفاوضات بين وفد "قسد" وببن الحكومة السورية المركزية، لا بد من معرفة من هو المتحكم الحقيقي بإدارة الجزيرة السورية وصاحب القرار فيها، فالقادة الأكراد السوريون، ومنهم مظلوم عبدي وإلهام أحمد وفوزة يوسف وغيرهم، يبدو أنهم لا يمسكون بمركزية القرار في منظومة "قسد"، وإنما ثمة من هو أقوى تأثيراً وتحكّماً، ولعل من أبرز هؤلاء المتحكّمين جمال ياييك، وريث عبد الله أوجلان، أو بشكل أدق المنافس الذي يلبس ثوب الوريث والتابع، وهذه المنظومة تقود أربعة أحزاب كردية، وهي العمال الكردستاني في تركيا، الاتحاد الديمقراطي في سوريا، الحياة الحرة في إيران والحل الديمقراطي في العراق، ويتحكم هؤلاء الأعضاء إلى جانب قادة الصف الأول في جبال قنديل، بشمال شرق سوريا، يعكس أهمية سوريا بالنسبة لها، وهي أهمية تفوق تركيا والعراق وإيران، حيث تخوض تلك المنظومة معركة وجود في سوريا.
يبدو أن المشكلة لم تعد تنحصر بسقف المطالب المرتفعة التي تتمسّك بها "قسد"، بقدر ما بات الامر يتعلق برهانات حزب الاتحاد الديمقراطي، على مجمل الأحداث الجارية في سوريا، وعلى وجه التحديد ما حدث في مدينة السويداء في منتصف تموز الماضي، إذ إن تدخل إسرائيل في الشأن السوري واستثمارها لورقة الدروز، ربما أغرى قيادات "قسد" بالمماطلة، ومن ثم الرهان على مزيد من التدخل الإسرائيلي الذي من شأنه إضعاف الحكومة المركزية في دمشق، الأمر الذي ربما يجعل الحكومة السورية مضطرة لتقديم مزيد من التنازلات حيال "قسد" حفاظاً على تماسك السلطة. إلّا ان هذا الرهان بدأ يفقد مفعوله شيئاً فشيئاً، في ظل استمرار الدعم الدولي لحكومة دمشق، وكذلك في ظل تنامي العلاقات السورية الأميركية التي شهدت تطوراً ملموساً إبان حضور الرئيس السوري أاحمد الشرع إلى مقر الجمعية العامة للأمم المتحدة، وإلقائه كلمة على منبرها، فضلاً عن الحراك السياسي للرئيس السوري والوفد المرافق له، على هامش اجتماعات الجمعية العامة.
وفي ظل استبعاد حكومة دمشق لخيار الحل العسكري، من المرجح أن تبقى "قسد" متمسّكة بشروطها دون الالتزام بسقف زمني محدد، أملاً في تحقيق أكبر قدر من المكاسب، إلّا إذا بادرت الإدارة الأميركية بسحب مظلتها العسكرية والسياسية عن "قسد"، فحينئذٍ لن تبقى الأخيرة مهددة من جانب حكومة دمشق فحسب، بل من جانب تركيا أيضاً، فضلاً عن ان ألمدة التي اتفق عليها الطرفان لتنفيذ اتفاق العاشر من آذار، ستنتهي بنهاية هذا العام. فهل ستذهب قيادات قسد إلى نهايات هذا المآل الذي يفضي إلى المجهول؟ أم سيكون لها حسابات أخرى أكثر واقعية و منطقيةً؟
-------
المدن