
من اين ندخل للربيع العربي …؟ من نافذة الدم أم من بوابة الحرية …؟ وبما اني تحديدا لست من الفئة المتفرجة ٫ بل المنتقدة جزئيا ٫ والمؤيدة بكل جوارحها وامكانياتها ٫ فسأختار الدخول من بوابة التفاؤل بالآتي لان هذه البوابة بكل سهامها الخفية والعلنية تشير الى قدوم عصر الحريات لمنطقة بكت ملائكة السماء دما لكثرة ما جرت فوق أراضيها من جرائم ضد الانسانية ٫ وكلهاغير مبررة بأي قانون سماوي أو ارضي .
هذه المرحلة هي ما يختتم بها في سوريا والمنطقة العربية الان عهد الاستبداد الشرقي قرونه الطويلة العجاف ليفتح الطريق أمام جواب حتمي سمعه قبل غيره بين أنين الضحايا ضابط المخابرات السوري علي عباس وهو يرفس ويعفس مواطني " قرية البيضا" القريبة من بانياس وهم مقيدون ووجوههم الى الارض ٫ ويسألهم بكل حقد العالم الموروث من عصور سحيقة : بدكن حرية …؟ فيأتي الجواب رغم العذاب حاملا تحدي المظلومين من شاب موثق وشبه مكمم : أيه بدنا حرية .
لقد ذكرت هذه الصورة بالذات وهي واحدة من ألوف الفيديوهات عن عذابات الثوار السوريين لأنبهكم الى أن عسكرة الثورة السورية لم تأت من فراغ ٫ فقد استمر السوريون تسعة أشهر يموتون قنصا وذبحا وجلدا وهم يهتفون للحرية في مظاهرات سلمية بلغت نسبة المشاركين فيها اكثر من تسعين بالمئة في بعض المدن .
في حماة وحدها خرج لساحة العاصي قبل رمضان ٢٠١١ ثلاثة ارباع المليون من اصل تعداد السكان البالغ ٨٠٠ ألف ٫ وفي حمص واسطة العقد في الجغرافيا السورية لم يبق في البيوت حين لاح عصر الحرية ملوحا من بعيد الا المشلول الذي لم يجد من يدفع به الكرسي ليخرج مع الملايين التي صحت على حلم أيقظه الربيع العربي بعد كوابيس مديدة من حكم الفساد والاستبداد .
لقد عرفت سوريا قمع السلطة للشعب بوحشية منقطعة النظير في تاريخها الحديث منذ ثمانينات القرن الماضي حيث كانت وحشية النظام في عهد الاب اثناء ابادة حماة لا تقل عن وحشية ابنه مواجهة الثورة الحالية في كافة المناطق ٫ ووقتها سكت العالم كما يسكت اليوم عن ابادة جماعية ذات لون طائفي لمدينة كاملة .
لماذا …؟ لأنه كان يحضر مرتكبها لدور اقليمي يكبح من خلاله القوى الحيوية والحية في البلد العربي الوحيد الذي كان يشهد حراكا سياسيا ملحوظا تلك الايام ٫ واعني به لبنان والقوى الفلسطينية التي كانت متمركزة فيه ٫ وسيتكرر في سوريا بالذات قمع بواكير ثورة حرية أخرى مطلع هذا القرن اثناء ماعرف تاريخيا باسم " ربيع دمشق " ٫ وكان قمع تلك الحركة أول تجارب الاسد الصغير في قمع شعب سوريا .
منذ ذلك الوقت كانت التجاذبات الدولية تعمل وكما اعتادت منذ عهود الاستعمار في القرن التاسع عشر لصالح انظمة الاستبداد الشرقي التي ترى فيها الحامي الحقيقي للمصالح الغربية التي خانت قياداته السياسية قيم مجتمعاتها وعصارة ثوراتها الفكرية ٫ وتغاضت غالبا و - باستناءات قليلة - عن انتهاك حقوق الانسان في المنطقة العربية ٫ ولم تكن ترى في ممارسات حافظ الاسد وصدام حسين ومعمر القذافي وحسني مبارك وعلي صالح وبن علي أي غضاضة ما داموا يؤدون الدور الاقليمي المطلوب كوكلاء محليين للخدمات الامنية ٫ أما بقية الممالك والامارات ٫ فيكفيها لشراء سكوت الغرب عن انتهاكاتها ٫ وفسادها ان تظل من المشترين الكرماء للسلاح ٫ وان تمنح قواعد عسكرية حين يطلب منها ذلك .
لقد شهدتم جميعا في الحالة السورية الفشل الذريع للمجتمع الدولي ٫ وانهيار القيم في العلاقات الدولية ٫ ورأيتم كيف انتهكت مواثيق الامم المتحدة وسقط عن السوريين حق حماية المدنيين في الحروب لأن روسيا لم تجد غضاضة في استخدام الفيتو ثلاث مرات ٫ ومعها الصين ضد أي قرار قد يقود الى تقييد ايدي العصابة الحاكمة في دمشق ٫ ومنعها من مواصلة الفتك بالنساء والاطفال باعتى واشرس انواع الاسلحة .
وربما كان الغرب الذي افتقد الارادة السياسية ليرتفع الى مستوى منظومة القيم التي يدعيها سعيدا بالسر لاستخدام الروس حق النقض لأن ذلك يعفيه نظريا من المسؤلية ٫ ويبيح له الاستمرار في دور الشيطان الأخرس رغم أن كافة تلك الجرائم كانت معروفة وموثقة بما في ذلك استخدام صواريخ سكود على المدن الاهلة ٫ والسلاح الكيماوي ضد المدنيين العزل .
ومما يعزز هذا الاعتقاد مساهمة الاعلام الغربي بكثافة في " شيطنة " الثورة السورية ٫ فقد كتب عن " جبهة النصرة " في عامين اضعاف ما كتب عن القاعدة في ربع قرن في حين ظلت جرائم النظام في مراحلها الاولى لا تحظى الا بتغطيات طفيفة وخجولة بل ٫ ومتعاطفة احيانا مع مرتكب المذابح كما فعل " روبرت فيسك " مراسل صحيفة " الاندبندانت " البريطانية الذي غطى وهو يرافق كتائب الاسد مجزرة كبرى في الريف الدمشقي .
ويكفي أن نعرف أن عدد الضحايا من الاطفال وحدهم في سوريا يقترب من رقم عشرة آلاف طفل وان الذين ماتوا تحت التعذيب بحدود ثلاثة الالف لندرك ان التجاذبات الدولية ولغة المصالح تغلبت على القوانين الدولية والامم المتحدة ٫ ومنظومة القيم الغربية التي جعلت من حقوق الانسان انجيلا معاصرا أختارت ألا تفتحه ابدا أثناء سنوات وشهور الثورة السورية .
على المستوى العربي كان تعامل القيادات السيايسية مع الربيع السوري ٫ والعربي عموما تعاملا حذرا ٫ بدأ صامتا ثم متململا ٫ ثم بدأ يتحول ببطء نحو فعل شئ ما غير واضح الملامح ٫ فلما وصلت الجامعة العربية الى اتخاذ قرار بالشأن السوري في يناير - كانون الثاني من عام ٢٠١٢ كانت الثورة قد دخلت في مرحلة العسكرة التي جاءت كمحاولة من العسكر المنشقين لحماية اخوانهم المدنيين ولم يعد نداء - سلمية سلمية سلمية - يتردد في سوريا الجريحة التي انقلب جيشها ضد شعبها ٫ وبدأ يصفي حراكه السلمي بوحشية قل نظيرها ٫ ومع ارتفاع عدد الضحايا من عشرات الى مئات يوميا لم تنجح القيادات السياسية العربية في اتخاذ موقف ردعي من تلك الوحشية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا .
لقد ظل بعض القادة كما في حالتي الجزائر والعراق والى حد ما لبنان والاردن يقفون في مجلس الجامعة العربية ضد اية قرارات تخدش ما يسمونه " السيادة الاقليمية " و " التضامن العربي " الذي ظل تضامنا صامتا بين مستبدين دب الذعر في صفوفهم منذ اقلع بن علي هاربا من غضب الشعب التونسي في يناير - كانون الثاني ٢٠١١ ثم تبعه مبارك بعدها بشهر واحد ٫ وأبان ذلك بدأت ثورة ليبيا والبحرين ٫ وكانت ثورة اليمن مستمرة في مليونياتها .
وهنا لابد أن نلاحظ الازدواجية في الموقف العربي فقد كان قرار قطع العلاقات مع العصابة السورية الحاكمة ٫ واستدعاء السفراء من دمشق متخذا منذ مطلع عام ٢٠١٢ لكننا شاهدنا ان سفير النظام السوري في القاهرة والجامعة العربية احمد يوسف صهر الاسرة الحاكمة ظل في موقعه مع انه كان يشتم الجميع يوميا ٫ وما يزال سفير العصابة في العاصمة الاردنية بهجت سليمان وأحد عتاة اجهزة القمع في سوريا متواجدا الى اليوم ناهيك عن سفراء الجزائر والعراق ولبنان .
وكان من شأن هذه الازدواجية ان تقنع الجلادين في دمشق بان العرب كعادتهم غير جادين في اتخاذ موقف حاسم ٫ ولا حقا وحين تم اتخاذ ذلك الموقف وتمت الموافقة على العقوبات الاقتصادية ٫ ومقاطعة المصارف والطيران ظلت رحلات الطيران العربي مستمرة وكأن شيئا لم يكن الى ان قام الثوار بحصار مطار دمشق ٫ وادخلوه في عطالة اجبارية مع بقية مطلرات الدولة .
ولمزيد من الدقة لابد ان نلاحظ ايضا ان الانظمة العربية والخليجية منها على وجه الخصوص لم يعنيها مصير زين العابدين بن علي كثيرا لكنها عملت بدأب على انقاذ مبارك وستكشف الايام عن رسائل وبرقيات كثيرة ارسلت من قبل تلك الانظمة ومن قبل اسرائيل ايضا للادارة الاميركية تطالب اوباما بالعمل على انقاذ الرئيس مبارك لكنه لم يكن مستعدا لفعل ذلك وعلى الارجح لم يكن مستطيعا فقد خرجت الامور بخروج شعب كامل الى الشوارع عن السيطرة .
في تلك اللحظة التاريخية بالذات وقبل ان تسيل انهار الدم الليبي ٫ ويتبعه السوري كان المزاج الاميركي ربيعيا ومع الحراك العربي الشعبي الذي قد ينتج للاميركيين الفوضى الخلاقة التي مهدت لها كونداليزا رايس قبل قدوم هيلاري كلينتون باعوام خمسة ٫ وما زال صدى نظريتها عن " الفوضى الخلاقة " يتردد كلما تعقدت الحالة العربية اكثر ٫ وهنا لابد من التحذير من التعميم ٫ فقد كانت قصة كل ربيع عربي رواية مستقلة ٫ وان تقاطعت خطوطها عند بعض المفارق .
انها حالة تشبه حالة اوروبا اثناء الحرب الاهلية الاسبانية حيث انقسمت المجتمعات الى فريقين واضحين ٫ فجاء اوروبيون كثر ليقاتلوا مع الثوار الاسبان ٫ وكان الادباء والمفكرون الاكثر حماسا للثورة الاسبانية ضد فرانكو وتاريخ الادب يحفل بكتابات رائعة عن تلك الحقبة ٫ وهذا ما لم يكن موجودا في ثورات الربيع العربي التي غابت عنها هذه النماذج ٫ او لنقل انها كانت نادرة بسبب تبعية الكاتب والمفكر العربي للسلطة منذ ايام ابن خلدون القائل " الكاتب آلة السلطان " .
في ثورات الربيع العربي عاد كل كاتب وفنان الى قبيلته وطائفته رغم تاريخه المثقل بشعارات التمرد والعلمانية و الحرية ٫ ويكفي أن نذكر من سوريا على سبيل المثال على هذه الارتكاسة نموذجين اثنين هما دريد لحام وادونيس ٫ ومعهما عشرات النماذج الادبية والفنية التي ظلت تنادي بالحرية نظريا ٫ فلما وصلت الحرية الى المشارف سارع هؤلاء لسد الابواب والنوافذ في وجه رياحها المباركة لاسباب لا يمكن تفسيرها بغير التوجهات المذهبية ٫ فادونيس مثلا الذي تحمس لثورة الخميني الاسلامية اكثر من الايرانيين انفسهم وجد نفسه اثناء الثورة السورية ينتقد خروجها من المساجد .
لقد انتهى الحراك السياسي في البحرين سريعا بقوة خليجية مشتركة " درع الجزيرة " ٫ وانتصرت ثورة الشعب الليبي بتحالف عسكري من قبل " الناتو " الذي سارع للتدخل كي لا يدمر القذافي بنغازي كما قيل ٫ في حين حسم حياد الجيش المصري ثورة يناير - كانون الثاني لصالح الشعب ٫ وكان السيناريو اليمني الاكثر تعقيدا فقد استغرق عاما ونصف العام ليصل الى تهدئة هشة ٫ وما تزال مآلاته رغم انخفاض مستوى العنف كمآلات الثورة السورية مفتوحة النتائج على كل الاحتمالات ٫ فالثورة المضادة هناك أكثر وضوحا خصوصا وان على عبدالله صالح وطاقمه الحاكم لم يغادر البلاد وقد تفرغ للايقاع بالثوار والثورة ٫ وهو ورغم حربه الطويلة مع الحوثيين يرى فيهم الان حلفاء محتملين اذا عاد الصراع ٫ وتعسكر مرة اخرى ٫ وهذا الاحتمال ليس بعيدا ٫ فنسبة العنف هناك تزداد بوتيرة مقلقة ٫ وبتدخل ايراني سافر كما يحدث في سوريا .
وما دمنا قد فتحنا سيرة المآلات ٫ فلنمتلك الجرأة للقول أن المشروع الاخواني في مصر والى حد ما مشروع حزب النهضة التونسي الاسلامي يتحملان وزر انتكاسة الاحلام الديمقراطية ٫ ونهوض دولة المواطنة المدنية التعددية التي كانت هدفا معلنا لكل ثورات الربيع العربي ٫ ففي هذين البلدين ورغم الانتخابات ظهر ان الايديدلوجيا الحزبية الموروثة للاخوانيين في مصر والاسلاميين النهضويين في تونس تصطدم عند التطبيق بارث غير متعود على الديمقراطية والتعددية .
وهذه ليست حالة الاسلاميين وحدهم ٫ ففي العالم العربي الجميع غرباء عن الديمقراطية يتساوى في ذلك القوميون واليساريون والاسلاميون ٫ فجميعهم من خلفيات عنصرية واستبدادية وشوفينية احيانا ٫ ومن جراء هذا الارث الثقيل المعادي للحريات والحقوق ٫ وسياسة الاستحواذ بسرعة على المكاسب والمناصب تفجرت الصراعات العميقة في كل مجتمع ٫ وكان هذا متوقعا لكن غير المتوقع أن يتحالف من كانوا ثوارا مع فلول الثورة المضادة كما يحصل في مصر حاليا .
والتفسير المنطقي لهكذا حالة ان الذين قاموا فعلا بالثورة كانوا في غالبيتهم العظمى من الشباب فلما انتصرت الثورة غاب هذا العنصر عن فقهاء " سياسة التمكين " في مؤسسات الدولة ووجد الشباب الثائر نفسه غريبا ومنبوذا حين صار مستقبل الثورة بيد مجموعة من المتسلقين ٫ والامر نفسه تكرر في تونس فنسبة الشباب الذي قاد الصراع ودفع ثمنه ضئيلة جدا في مؤسسات الدولة التي ما تزال تحكمها البيروقراطيات التقليدية التي دعمها الاسلاميون والاخوان الفائزين باول انتخابات حرة بعناصر من طبيعتها ٫ فبدا الامر وكأنه عملية احلال موظفين مكان آخرين ليسو بالضرورة أكثر كفاءة وعند هذا المفترق التفت المصريون فلم يجدوا الثورة مما أشعل غضبا شاهدنا الكثير من فصوله في الاسكندرية وامام قصر الاتحادية في القاهرة حيث مقر الرئيس المنتخب في ظروف يمكن ان يقال عنها دون تجن على احد انها لم تكن طبيعية .
وكانت هذه النتائج المحبطة متوقعة لمن يقرأ عمق تلك التحولات الارتجالية ٫ فالثورات تغير لكنها لا تصنع معجزات فورية خصوصا اذا غاب العنصر المتحمس للثورة والتغيير ٫ وحل مكانه الانتهازيون وقناصو الفرص ٫لذا لم يكن غريبا كل ما نسمعه عن فساد المعارضات المخترقة بالفلول ٫ فهي بالاساس وقبل هذا الاختراق تفتقر للخبرة السياسية لأن الحراك السياسي والمشاركة في صنع القرار كانت غائبة عن جميع دول العالم العربي باستثناءات قليلة .
ان كل ما جرى من سرقة الثورات ظواهر معروفة تاريخيا ٫ وتحيل الى تصحيح مقولة " الثورات تأكل ابناءها " ففي حقيقة الامر ان الذي يأكل الثوار الاوائل ليس الثورات بل هو طبقة الانتهازيين والوصوليين الذين يتكاثرون في أزمنة الفوضى ٫ وفي كل ثورة لابد من فوضى مهما كانت صرامة الثوار ونبل اهدافهم ٫ وقد رأينا في الحالتين السورية والليبية مرتزقة ٫ وقوى خارجية تتدخل تحت عناوين وشعارات مختلفة .
ولعل هذا الامر كان اكثر وضوحا في الحالة السورية التي أصبحت ثورتها الان اشبه ما تكون بحروب الاستقلال ٫ فقد سقط النظام السوري رمزيا بل وعمليا في رمضان ٢٠١١ وكل ما تلا ذلك انما هو احتلال أجنبي تشارك فيه قوات من روسيا وايران وحزب الله وألوية عراقية ٫ وبذلك تصبح الثورة السورية شكل من أشكال معارك التحرر من الاستعمار ايضا لكنه هذه المرة مزدوج - محلي وخارجي - ٫ وبذا فان حكومة الاسد على هذا القياس أشبه ما تكون بحكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع محتلي بلادها .
وهنا لا بد من سؤال : لماذا صارت الساحة الحالة السورية ساحة نزال للعالم كله ..؟ لقد قام الشعب السوري بثورته للتخلص من نظام مستبد فاسد واحد ٫ فوجد نفسه بعد شهور امام مهمة تغيير عالم بأكمله بكل منظومة قيمه المتعارف عليها ومؤسساته الدولية التي تحمي تلك المنظومة لذا سميت الثورة السورية ب" الكاشفة " التي كشفت زيف المجتمع الدولي وهشاشة تركيبته .
أما لماذا ذلك …؟ فلا بد من الاشارة الى انه احيانا تلعب الجغرافيا ضد أهلها ويصبح التاريخ مجرد اداة لها ٫ وهذا ما حصل في سوريا التي تكالبت عليها القوى الاجنبية والاقليمية بسبب موقعها الاستراتيجي فائق الاهمية لكن الأخطر في الحالة السورية هو المنحى الطائفي الذي بدأ يطغى على يومياتها وخصوصا بعد خطاب أمين عام حزب الله قبل التدخل في القصير ٫ فمنذ ذلك اليوم انفتح باب الصراع المذهبي في المنطقة على مصراعيه ٫ وأصبح علنيا مع انه كان معروفا ومسكوتا عنه منذ بدأ القمع الممنهج الذي كانت تقوم به قوات من لون طائفي واحد ضد مناطق من لون آخر .
ان مقارنة الصراع المذهبي في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي بالصراع الاوروبي بين الكاثوليك والبروتستانت في القرون الوسطى مقارنة تخفيفيه وغير كاملة ٫ فالامور في منطقتنا أكثر خطورة لأن الجغرافيا متداخلة وكذلك النسيج الاجتماعي ٫ وان من شأن هذا الصراع ان تصاعد ان يدمر مناطق كاملة ويعيد تقسيم الشرق الاوسط على اساس مذهبي وهذه فرضية لا يستطيع العالم تحمل نتائجها الكارثية .
وفي أمثال هذا النوع من الصراعات يصبح المخزون التاريخي سلاحا تحريضيا ٫ وفقه المذاهب مادة عسكرية لذا تزداد شراسة الاعلام الذي يتحول الى سلاح مدمر في أغلب الاحيان ٫ فليس في العالم العربي الان اعلام حر بل " بروباغندا " تدعم هذا الطرف أو ذاك ٫ وتقود الحروب النفسية نيابة عنه .
ويمكن القول دون مبالغة انه لم يتم تشويه أي ثورة بالتاريخ بالطريقة التي شوهت فيها الثورة السورية التي اتهمت بالتطرف قبل ان يدخلها المتطرفون ٫ وظلت وتيرة التشويه تتصاعد الى أن أصبح السوريون على لسان الرئيس الروسي بوتين الداعم للسفاح السوري الى " أكلة لحوم بشر " وهي تهمة رددها اكثر من مرة في مؤتمرات صحفية عالمية ٫ واكثر من تردادها أثناء قمة الثماني في ايرلندا الشمالية في السابع عشر من حزيران - يونيو ٢٠١٣ .
ورغم كل ما يقال عن " الأخونة " في مصر ونمو التيارات " السلفية " في تونس وليبيا ٫ وتكاثر " الجهاديين " في سوريا ٫ فاني أميل الى الاعتقاد بان مزاج المنطقة سيظل وسطيا ورافضا للتطرف ٫ أما بناء الديمقراطية ٫ فتلك قصة أخرى تحتاج تربية وممارسة وتنظيما وبناء مؤسسات مجتمع مدني لا نمتلك منها الا اقل القليل .
وتحتاج ايضا قبل هذا كله الى اجيال لم تلوث عقلياتها عهود الاستبداد المديدة التي تخلق تربيتها عادة كائنات مشوهة ٫ مزدوجة المواقف ٫متناقضة ٫ ولباسة أقنعة ٫ ومن هنا يتعين علينا ونحن وسط هذه الشبكة من الاحتمالات المفتوحة على مآلات متناقضة أن نمتلك سلاح الوعي لنميز المشهد العام ونفهمه على حقيقته ٫ بدل الضياع في غابة من الأكاذيب التي يصنعها ٫ ويروجها إعلام فاقد الضمير ما يزال الى اليوم يصور ثورة السوريين الأشرس والأكثر تجذرا بين ثورات الربيع العربي على أنها موجة تطرف وحركة عصابات إرهابية .