كان الاعتقاد السائد أنّ مرحلة جديدة ستبدأ، عنوانها الأمن والإعمار، وأنّ سنوات الظلام التي عاشها السكان ستُطوى. لكن سرعان ما تبددت تلك الآمال، لتكتشف الرقة أنّ قدرها هو الانتقال من سلطةٍ متشددة إلى أخرى، همّها الأول بسط السيطرة الأمنية والتحكم بالموارد، دون أيّ مشروعٍ جدي لإعادة الحياة إلى المدينة.
بعد داعش.. سيطرة بلا إعمار
حين سقط تنظيم “داعش” في أبرز معاقله، بدا المشهد كأنّ صفحة جديدة تُفتح. المدينة، التي تحوّلت إلى رمز دولي للفظائع، كان يُفترض أن تصبح نموذجاً لتجربة حكم محلي بديلة، خصوصاً مع الدعم العسكري والسياسي الغربي المقدم لقوات “قسد”.
غير أنّ الواقع منذ الأيام الأولى جاء معكوساً تماماً. في هذا السياق، انصبّت جهود “قسد” على تكريس نفوذها عبر الإدارة الذاتية وأجهزتها الأمنية والعسكرية، بينما بقيت الخدمات غائبة. المشاريع التي رُوّج لها باعتبارها خططاً لإعادة الإعمار لم تتجاوز حدود التصريحات. وحتى اليوم، ما تزال مبانٍ مركزية مثل المجمع الحكومي، مبنى المحافظة، المركز الثقافي، وصوامع الحبوب عند المدخل الشمالي، أطلالاً صامتة تشهد على غياب أيّ خطة إنعاش.
أما الأبنية السكنية، فقد اقتصر ترميمها على مبادرات فردية من السكان أنفسهم، في ظل انعدام أيّ دعمٍ أو تعويض رسمي. وهكذا، بعد 8 سنوات، ما تزال صورة الرقة صورة مدينة مدمّرة، بلا مؤسسات دولة أو حياة مدنية منتظمة. وهنا يتساءل أهالي الرقة: أين موارد المدينة، خصوصاً نفطها، الذي كان من المفترض أن يكون رافعة لإعادة الإعمار وتحسين حياتهم؟
الزراعة: من شريان حياة إلى معركة للحفاظ على البقاء
منذ البداية، برزت سياسة “قسد” في الرقة ومنطقة الجزيرة عموماً كنموذجٍ لاقتصاد الغنيمة، شبيهة بأسلوب النظام السوري السابق. فبدلاً من أن تتحوّل موارد النفط إلى رافعة لإعادة الإعمار، جرى تحويلها إلى مصدر تمويل لأجهزة السلطة، فيما بقيت حياة السكان أسيرة الفقر والتهميش.
ولا يقتصر الأمر على الموارد النفطية، بل ترافق ذلك مع سياسة جباية خانقة شملت مختلف الأنشطة الاقتصادية: الزراعة، التي تُعد شريان الحياة، أُثقلت بالإتاوات، كما لم تسلم التجارة والنقل من الضرائب المفروضة على الحواجز. بمعنى آخر، لم تُعامل الرقة كمدينة بحاجة إلى إنقاذ، بل كغنيمة حرب تُستنزف بلا مقابل.
في هذا السياق، يوضح مزارع من ريف الرقة، رفض ذكر اسمه لأسبابٍ أمنية، أنّ بذار الحنطة الذي كان يُفترض أن يُطرح بسعرٍ مدعوم وصل اليوم إلى 450 دولاراً للطن، ورغم ذلك اضطر الفلاحون لشراء البذور من السوق السوداء بسبب سوء جودتها. أمّا “قسد”، فقد حددت سعر شراء القمح عند 0.31 دولار للكيلوغرام، إلا أنّ هذا السعر غير مضمون، إذ يخضع تقييم الجودة الذي قد ينتهي برفض المحصول بالكامل.
ويضيف المزارع أن تكاليف الأسمدة والمازوت والمبيدات باتت تفوق قدرة الفلاحين، فيما تحولت الذرة الصفراء إلى محصول محتكر بالكامل من قبل تجار مرتبطين بـ “قسد”. أمّا القطن، فرغم تكلفته العالية وسعره المجزي نظريًّا رفضت “قسد” استلامه في موسم 2023، ما اضطر الفلاحين إلى بيعه في السوق السوداء بخسارةٍ فادحة.
ومن جهة أخرى، يكشف المزارع عن فساد متجذّر في عمليات التسويق، بدءاً من شهادة المنشأ التي تُباع بالرشاوى، والتي قد تصل قيمتها إلى 500 دولار، وصولاً إلى موظفي العيّنة الذين يحددون سعر المحصول وفقاً لمقدار الرشوة المدفوعة. ويختم بالقول:
“نحن محاصرون بين ارتفاع التكاليف وتدني الأسعار. الزراعة تحوّلت من مصدر رزق إلى معركة للحفاظ على البقاء.”
وفي انسجام مع هذه السياسة، أصدرت “الإدارة الذاتية” التابعة لمليشيا “ب ي د” في 23 آذار/ مارس 2025 قراراً يقضي بإلغاء جميع القرارات والتعاميم المتعلقة بتصدير المحاصيل الزراعية. وبحسب نص القرار، فإنّ محاصيل القمح والشعير والقطن والذرة الصفراء تُعتبر “مقيدة” ولا يمكن تصديرها إلا بموافقة هيئة الاقتصاد والزراعة، فيما يُسمح بتصدير باقي المحاصيل بعد الحصول على شهادة منشأ.
ورغم تبرير القرار بـ”مقتضيات المصلحة العامة”، تزامن توقيته مع أزمة الجفاف في سوريا، ما يعني عمليًّا حرمان الداخل السوري من شراء القمح من مناطق سيطرة “قسد”، وإبقاء التحكم الكامل بسوق المحاصيل الاستراتيجية بيدها، في انعكاسٍ واضح لعقلية الغنيمة التي تحكم تعاملها مع موارد المنطقة.
التجارة والضرائب والمخدرات: انهيار البنية التحتية
في هذا السياق، يقول أبو ناصر، أحد التجار المعروفين في الرقة، وهو اسم وهمي حفاظاً على سلامته، ساخراً:
“لا يوجد نشاط تجاري مزدهر في الرقة بشكل خاص والجزيرة السورية بشكل عام، سوى الكريستال المعروف محليًّا باسم “الاتش بوز”، والمواد المخدرة، وشركة “الشمال”.”
ويتابع موضحاً:
“في تجارة المواد الرئيسية كالحديد والإسمنت، إضافة إلى السكر، تستحوذ شركة “الشمال” على الحصة الأكبر بالتعاون مع شخصياتٍ مقربة من الحزب، أو مع تجار يدفعون مبالغ طائلة للحفاظ على إرثهم التجاري في السوق، سواء في الرقة أو القامشلي. نحن، كتجار، أثقلت كاهلنا الضرائب المفروضة؛ فعليّ شخصيًّا فُرضت ضريبة سنوية بقيمة 10 آلاف دولار، ما اضطرني إلى تحميلها على المستهلك. وتُحدّد قيمة الضريبة عبر لجنة تقيم رأس مال المحل أو المنشأة التجارية، وغالباً لا مفر من دفع رشاوى لخفض التقديرات، الأمر الذي يرفع الأسعار بشكلٍ غير منطقي في السوق. يضاف إلى ذلك الرسوم الجمركية التي تفرضها “قسد” على إدخال المواد من مناطق سيطرة النظام، سواء في عهد النظام السابق أو في ظل الحكومة الجديدة، حيث تُفرض 400 دولار على كلّ شاحنةٍ محملة بالسلع”.
ويضيف أبو ناصر أنّ الضرائب صارت محور النقاش اليومي الذي «سئمنا منه» بين التجار:
“خذ مثلاً محال بيع المواد الغذائية (البقاليات)، تُفرض عليها ضريبة سنوية بحدود 150 دولاراً، لكنّها قد تصل إلى 250 دولاراً بحسب لجنة التقييم. وغالباً ما يضطر صاحب المحل لدفع رشوة توازي قيمة الضريبة تقريباً، حتى يضمن بقاء المبلغ في حدوده الدنيا، وإلا فقد ترتفع الضريبة إلى 500 دولار سنوياً. هذا عدا عن الإتاوات التي تُجبى لصالح مكتب أو مجلس عوائل الشهداء، حيث يُستهدف التجار الكبار أو المعروفون من دون وجود معايير واضحة، وقد تصل المبالغ إلى أرقام ضخمة؛ كما حصل مع صديق لي دفع 100 ألف دولار”.
ومع كل هذه السياسات، لا يظهر أيّ أثرٍ ملموس على المدينة أو مظهرها؛ فالشوارع غير معبّدة، وإن جرى تعبيد بعضها فيكون ذلك بأقل التكاليف وبطريقة عشوائية، ولا شبكات مياه حقيقية، والكهرباء تأتي كالضيف، ونعتمد على المولدات الكهربائية أو الإنفيرترات، أو على الألواح الشمسية رغم تكاليفها الباهظة. كما أنّ الصرف الصحي غير مُنفّذ بطريقةٍ مدروسة، ولا أرصفة مجهّزة بشكل حضاري.
وبالنتيجة، تركت هذه السياسات أثرها المباشر على تفاصيل الحياة اليومية للسكان. فشبكات المياه المتهالكة تتسبب بأزمات متكررة، في حين أصبح انقطاع الكهرباء جزءاً من الروتين اليومي. أما الشوارع المليئة بالأنقاض فما تزال شاهداً على حرب انتهت منذ سنوات، من دون أن يلمس الناس أي خطوات جدية لإعادة الإعمار.
وفي موازاة ذلك، يواجه الشباب فراغاً قاتلاً. ففي الوقت الذي انجرف فيه بعضهم إلى أنشطة خطرة، وجدت تجارة وتعاطي المخدرات ـ وعلى رأسها “الكريستال” (الميثامفيتامين) ـ بيئة خصبة بين المراهقين، مستفيدة من غياب المؤسسات التعليمية والثقافية. وهذا الواقع يعكس انهياراً اجتماعيًّا متسارعاً، ويكشف عمق الهوة التي خلّفها غياب الدور المؤسسي في حياة الناس.
الدعم الدولي والفرصة التاريخية التي فوتتها قسد
لقد حظيت “قسد” بدعمٍ أمريكي ودولي واسع، عسكريًّا وسياسيًّا، في ظرفٍ استثنائيٍّ لم يكن فيه منافس حقيقي على الساحة السورية؛ إذ اختارتها واشنطن لتكون شريكها المحلي في الحرب ضد تنظيم “داعش”، بعد أن قضى الأخير على معظم الفصائل المنافسة، بينما تاهت بقية القوى بين التجاذبات والصراعات البينية. وبناءً على ذلك، توفرت لـ “قسد” فرصة تاريخية لتثبيت نموذج حكم مختلف يقوم على بناء مؤسسات وتنمية حقيقية، ويُظهر للسكان أنّها سلطة قادرة على إدارة مدينة لا مجرّد قوة عسكرية، ممّا كان يمكن أن يعزّز موقفها التفاوضي مع حكومة دمشق في 10 آذار/ مارس الماضي. غير أنّه، وبعد مرور 8 سنوات، تبدو هذه الفرصة وكأنّها ذهبت أدراج الرياح، لتخسر “قسد” بذلك فرصتها التاريخية إلى الأبد.
على الصعيد السياسي، سعت “قسد” لتسويق تجربتها كنموذجٍ بديل عن النظام السوري البائد، مستفيدة من الفراغ الذي خلّفه انهيار “داعش” في الرقة ومنطقة الجزيرة، إضافة إلى حاجة الداعم الأمريكي لشريك استراتيجي يضمن استقرار المنطقة.
غير أن هذا الدعم الأمريكي والدولي الواسع لم يتحوّل إلى مشاريع تنموية أو استثمارات ملموسة، بل اقتصر على تعزيز سلطة أمر واقع، هدفها الأساسي ضبط الأمن النسبي الذي يحفظ أهمية “قسد” في نظر الجهات الدولية ويضمن استمرار تدفق الموارد المالية.
وفي المرحلة الراهنة، حاولت “قسد” الاستفادة من تشدد الحكومة السورية في وقتٍ سابق، التي كانت مصنفة ضمن قوائم الإرهاب، بينما كانت “قسد” شريكة استراتيجية للجهات التي فرضت هذا التصنيف، وذلك لتثبيت نفوذها في المنطقة. ومع ذلك، لم يكن هذا الاعتماد وحده كافياً لضمان الاستقرار أو لإقناع السكان بشرعية حكمها، خصوصاً في ظل سوء النموذج الذي قدمته “قسد” خلال فترة سيطرتها على الرقة والجزيرة السورية عموماً، وما رافقه من انتهاكاتٍ جسيمة وفظائع إنسانية تحوّل دون التمسك بها.
وفي المقابل، سعت الحكومة الانتقالية الجديدة جاهدة لتغيير صورتها أمام المجتمعين المحلي والدولي. وبينما ترفع “قسد” شعارات رنانة منذ 8 سنوات، بقيت ممارساتها على الأرض منفصلة تماماً عنها، ما جعلها عاجزة عن إقناع سوى قلة محدودة من السكان.
ثماني سنوات من الخيبة: تقييم السكان والمحللين
وفقاً لآراء محللين محليين وناشطين مدنيين في الرقة، بعد ثماني سنوات من سيطرة “قسد”، لم يتغير المشهد كثيراً؛ فالمدينة ما تزال مدمّرة بلا إعمار أو تنمية، وتدار بعقلية الجباية والسيطرة الأمنية. ويرى هؤلاء أنّ ما تغيّر فقط هو اسم الجهة الحاكمة، أما معاناة الناس فبقيت على حالها، بل تفاقمت.
وفي هذا السياق، يوضح ناشطون مدنيون أنّ أهالي الرقة يجدون أنفسهم أمام سلطة تفرض الضرائب والإتاوات، بينما تترك مدارسهم بلا تجهيز، ومستشفياتهم بلا دواء، وشوارعهم بلا إصلاح. ويضيف السكان أنّ الانتهاكات لم تقتصر على الحرمان المادي، بل وصلت إلى مستويات أكثر خطورة، تشمل الاعتقالات التعسفية للمدنيين والناشطين والإعلاميين، والتعذيب حتى الموت في أقبية “قسد”، وفرض حظر تجوال، وفقدان الأمان، إلى جانب السرقة المتكررة للمحال التجارية والسيارات المدنية، رغم وجود كاميرات مراقبة في الشوارع الرئيسية، التي فُرضت بالإجبار على أصحاب المحلات التجارية وعلى نفقتهم الخاصة، ما يعكس استهتاراً صارخاً بأرواح المواطنين وحقوقهم الأساسية.
ومن جهة أخرى، ظهر ما يعرف باسم مجموعة “الشبيبة الثورية”، التي -وفق السكان- هي مجموعة منفلتة لا تخضع للقوانين أو للأعراف المحلية. تتدخل هذه المجموعة في حياة الناس اليومية، وتمتلك صلاحية مطلقة للاعتقال وتفتيش ممتلكات الأفراد وحتى هواتفهم الشخصية. ويشير السكان إلى أنّ هذه المجموعة لا تتردد في تصفح الصور الخاصة للمواطنين، بما فيها الصور العائلية، والبحث عن أيّ محتوى يُظهر علم الثورة السورية أو أيّ نقد للوضع المعيشي، ما يضاعف شعور الناس بالخوف والانكشاف التام.
وبالانتقال إلى ملفات جديدة، أفادت تقارير محلية وناشطون من الرقة بأنّ قوات “قسد” نفّذت في 29 أيلول/ سبتمبر 2025 حملة سوق إجباري للتجنيد، شملت أكثر من 200 شاب دفعة واحدة، في أكبر عملية من نوعها منذ سيطرتها على المدينة عام 2017. وأكّد الأهالي أنّ الحملة نُفّذت بشكل مباغت، وسط انتشار أمني كثيف في الأحياء الرئيسة، ما أثار حالة من الذعر بين العائلات التي تخشى على أبنائها من التجنيد القسري. ويعتبر السكان أنّ هذه الحملة تكشف مجدداً عن سياسة فرض الأمر الواقع التي تتبعها “قسد”، لكن هذه المرة بطريقة مختلفة تماماً، وكأنّها تستعد لحرب تتوقعها.
وفي سياقٍ متصل، يشير المحللون إلى أنّ الرشوة تفشّت في كلّ مفصل إداري، وتحوّلت موارد الناس إلى غنيمة بيد قلة متنفذة، فيما تنتشر المخدرات بين الشباب والأطفال كوجهٍ آخر للانهيار الاجتماعي. وبناءً على ما ذكره هؤلاء، يمكن القول إنّ قائمة الانتهاكات طويلة، من اعتداءات على الحريات الفردية، مروراً بغياب العدالة والخدمات الأساسية، وصولاً إلى المخاطر البنيوية والبيئية التي تتهدد حياة الناس بشكلٍ مباشر.
وسط هذا الواقع الخانق، لا يجد سكان الرقة سوى المزيد من الإحباط، إذ تحوّلت مدينتهم إلى ساحة مغلقة تُدار بعقلية الغنيمة لا برؤية التنمية. وفي النهاية، يطرح محللون وناشطون السؤال نفسه: بعد ثماني سنوات، إلى متى ستظل الرقة ضحية التجاذبات السياسية، محاصرة بين مصالح القوى المختلفة، حيث تتقدّم حسابات السياسة على حياة السكان، الذين أصبحوا مجرّد أرقام في معادلة النفوذ؟ً
---------
سطور
---------
سطور