
يقف دي لوكا طويلا نحيفا بشعره الكستنائي اللون بعينين زرقاوين وبنظره واضحة ثابتة لا تهتز متحدثا ببطء مرسلا بعباراته الذكية التي لا تخلو من عمق المعنى والإحساس فهو صاحب المقولة الشهيرة: "أنا أنفصل تماما عمّا كتبته، ولا أعيد قط قراءة ما نشرته في السابق. لم يعد ملكي. ليست الكتب أطفالاً، كما يسميها البعض. هي رفيقاتنا فحسب، تصاحبنا مرحلة ثم تغيب إلى حياتها الخاصة".
حظي دي لوكا بحياة أدبية زاخرة حيث أثرى وتأثر بالأدب دوما، كما عاش حياة سياسية نشطة، فكان ثائرا شيوعيا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي ناضل في صفوف اليسار وتعاطف مع الحركات الثورية في جميع أنحاء العالم من فيتنام إلى تشيلي وبالرغم من هذه التجربة السياسية الحافلة إلا أن دي لوكا يرى أنها تجربة لا فائدة منها.
يقول الكاتب الإيطالي في مقابلة مع وكالة الأنباء الألمانية ( د. ب. أ) في مدريد بمناسبة الترويج لأحدث كتبه " الأسماك لا تغلق عيونها "، الصادر بالإسبانية عن دار نشر( Seix Barral ) إنه "كان من الطبيعي أن أشارك في الحياة السياسية كان القرن العشرين هو قرن الثورات وكنت جزءا منه".
كما يرى دي لوكا أن الثورات العربية الآن ما هي إلا أواخر ثورات القرن الماضي وإن جاءت متأخرة، موضحا أن كلمة ثورة أصبحت كلمة قديمة لا معنى لها في وقتنا الحاضر وأن أي اعتراض ما هو إلا "نوع من الإرهاب" .
يقول دي لوكا متشككا حول السياسة الإيطالية إنها لم تعد سياسة مناورات بل أضحت تكنوقراط فرئيس الوزراء الحالي في إيطاليا ماريو مونتي هو نموذج لرجال الحكم التكنوقراط فهو أستاذ في الاقتصاد ولكنه لا ينتمي إلى أي حزب سياسي أي أنه لم يتم اختياره لحنكته السياسية وإنما لمهارته العلمية .
يوضح دي لوكا أننا أصبحنا نعيش في عالم بلا مواطنه "لم يعد هناك مواطن بل أصبح هناك عميل أو زبون وكما تقدر قيمة العميل بقدرته على الشراء أصبحت أهميه المواطن تقدر بحجم ثروته"،
ويضيف "إذا كنت عميلا تحمل بطاقة أئتمانية عالية القيمة فمن حقك أن تحصل على محام جيد وعلى عدالة حتى لو كنت مجرما اقتصاديا كبيرا فبإمكانكأن تتمتع بصحة جيدة وأن تتوافر لك جميع الوسائل العلاجية أما إن كنت فقيرا وبطاقتك الائتمانية لا تغطي احتياجاتك العلاجية فعليك الانتظار عاما كاملا من أجل أشعة مقطعية وإن كنت تستطيع أن تدفع من أجل التعليم فبإمكانك تعليم أولادك على أعلى مستوى ما دمت قادرا على الدفع ومن هنا تحولت الديموقراطية إلى الاوليجارشية ولم يعد الحكم من حق الجميع وإنما أصبح من حق العميل ذو المصلحة ولم يعتبر أحد أن هذا الأمر مرض خطير أصاب الديموقراطية وإنما تم اعتباره أنه مجرد تغيير في المسار السياسي".
أما عن رأي دي لوكا في الوحدة الإيطالية فيرى أن وحدة إيطاليا التي احتفلت العام الماضي بمرور 150 عاما على تحقيقها ما هي إلا اختراع سياسي حيث يقول إن إيطاليا لم تكن أبدا موحدة وإنما بمثابة بيت به عدد من الجيران المشاكسين كما أنه لن توجد ولايات متحدة مطلقا على ضفاف البحر المتوسط .
ولد دي لوكا في نابولي عام 1950 في فترة ما بعد الحرب وقد قضى طفولته كطفل نابوليتاني يذهب خلال فصل الصيف ليلعب على شاطيء ايشيا وهو الطفل نفسه بطل روايته" العيون لا تخزي العيون ".
يقول دي لوكا إن الطفولة هي "منبع أماننا ومنها نستقي إبداعاتنا وهي أصل إنسانيتنا"، موضحا "إنني لا أخترع وإنما اغتنم ما قد حدث وأتناوله من وجهة نظري ولهذا اعتبرونني مؤلف"، ولكنه في الوقت نفسه يعترف مبتسما بأنه على الرغم من أنه يحظى بحياة رغيدة بفضل حقوق التأليف والنشر إلا أنه لا يعتبر نفسه مؤلف بل "راوي لما ابدعته الحياة نفسها".
وقد عاش دي لوكا في نابولي حتى بلغ الثامنة عشر ثم اقتلع منها كضرس اقتلع من جذوره ولا يمكن زرعه في مكان آخر، هكذا عبر دي لوكا عن ارتباطه بنابولي التي هي أصل منشأه ولهجته حتى وإن بعد عنها وكلما وصفه أحد بأنه كاتب إيطالي، سارع بالتصحيح أنه يكتب فقط بالإيطالية، قائلا "لم أولد إيطاليا إنما ولدت نابوليتاني وقد جعلت من اللغة الإيطالية وطنا لي حبا لها فهي وطني بلغتها وليس برايتها أو نشيدها الوطني" .
وقد أظهر دي لوكا بعضا من حبه في 124 صفحة وهي صفحات كتابه "الأسماك لا تغلق عيونها" حيث قدم شعرا نثريا قويا مكونا من جمل قصيرة ومقتضبة وإن كانت تحمل من الصور الجمالية والمعاني ما يوقظ القاريء من سباته .
أطلقت الصحافة على دي لوكا لقب الأديب العامل حيث عمل لسنوات طوال كعامل في طائفة المعمار قبل أن تنشر روايته الأولى "ليس هنا ، ليس الآن" وهو في الأربعين من عمره وقد حرص على دراسة الأدب وقراءة الأعمال الأدبية بلغتها الأصلية وهو ما دفعه لتعلم العبرية واللغة اليادشية " لغة يهود أوربا " واللغة الروسية.
ويعترف دي لوكا أن الأدب قد غيره وقراءة الأعمال الأدبية الهامة والكبيرة والاطلاع على الكنوز الفنية الحديثة والقديمة قد غيرت نظرته للعالم . وهو ما يجعلنا نفكر أنه ربما يستحق لقبا آخر يليق بأديب له هذه المكانة .