تم إيقاف أقسام اللغات الأجنبية مؤقتا على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

أعيدوا لنا العلم

18/09/2025 - أحمد أبازيد

عودة روسية قوية إلى سوريا

17/09/2025 - بكر صدقي

لعبة إسرائيل في سوريا

10/09/2025 - غازي العريضي

من التهميش إلى الفاشية

10/09/2025 - انس حمدون

الوطنية السورية وبدائلها

04/09/2025 - ياسين الحاج صالح


إسطرلاب وسفن تستنطق التاريخ في متحف صلالة أرض اللبان والمخطوطات




مسقط - عاصم الشيدي - عندما يقودك حبك لاقتفاء أثر الجمال وتجد نفسك على وشك أن تعبر الجبل لدخول مدينة صلالة العمانية التي تقع في أقصى الجنوب، فلا بد لك أن تتحول إلى كائن شفاف، وكثير القدرة على استيعاب المشهد القادم لك. بعد أكثر من ألف كيلومترمن السير في الصحراء تبدأ الدخول إلى اللحظة الحاسمة في الرحلة كلها، وهي لحظة امتطاء الغيمة والتلحف بها. عندما تصعد إلى الجبل ستجد نفسك أنك تسير وسط الغيمة وتلتحف بها، وتتنفس منها، وتعانقها كما لم تحلم من قبل. تنسيك تلك اللحظة طول الطريق وصعوبته الشديدة.


يستخرج اللبان الخام كمادة صمغية من على الأشجار اللبان
يستخرج اللبان الخام كمادة صمغية من على الأشجار اللبان
كل شيء في صلالة مزدحم وباذخ، فكما أن الشوارع مزدحمة حد التوقف فإن الجمال الطبيعي والبشري باذخ الازدحام. كل شيء في هذه المدينة جميل، الغيوب تنزل بحنو لتعانق الجبل وتسير برهافة وشفافية على وجوه البشر. ومن بين أهم المعالم التي لا بد لك أن تزورها حتى تكتمل رحلتك لصلالة هو متحف أرض اللبان.

ورغم أن متحف أرض اللبان يحتوي على قاعتين فقط الأولى القاعة البحرية والثانية قاعة التاريخ إلا أنه استطاع أن يختزل جانبا مهما من التاريخ العماني (أعتقد أن التاريخ العماني بتنوع مفرداته يحتاج إلى متاحف عملاقة لتحيط به). مفردات قد نمر عليها في تفاصيل الحياة والتاريخ مرورا عبرا لكنها حتما عميقة من حيث صناعة إي حضارة من حضارة البشرية.

عند العتبة الأولى في القاعة البحرية وأنت تهم بالدخول برجلك اليمنى يقع بصرك على مجموعة من مجسمات لسفن شرعية. وأول مجسم يعانق عينيك مجسم سفينة " الغنجة" وهي السفينة الغنية عن التعريف حيث تمتد إلى مساحات زمنية سحيقة في التاريخ البحري. وربما هي من أشهر السفن العمانية التقليدية، تتمازج فيها المؤثرات العربية والغربية معا، حيث تم تصميم الروافد المستعرضة والشرفات الموجود بالقرب من نهايتها والتي تظهر في السفن الأوروبية كما تشير المصادر التاريخية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي. وكانت سفينة الغنجة تستخدم في التجارة بين عُمان وشرق أفريقيا والهند حتى القرن العشرين. " والغنجة" ليست سفينة واحدة، إنما مجموعة سفن يطلق على السفينة التي تحمل مواصفاتها اسم " الغنجة". وتقول المصادر التاريخية أيضا أنها استبدلت الأشرعة المثلثة العربية بأشرعة مربعة غربية.

وليس ثمة مسافة طويلة بين الغنجة و " البوم". ولا ينقص سفينة البوم تفاصيل الجمال عندما تنظر إليها ويستطيع بصرك أن يحتويها من زاوية رؤية واحدة. ورغم أن سفينة البوم ظهرت في القرن العشرين إلا أن تاريخ استخدامها يمتد إلى عصور قديمة حيث تتشابه تشكيلة الهيكل فيه مع تلك السفن التي ظهرت منذ 500 إلى 1000 عام وشاع استخدام البوم للأغراض التجارية عبر الجانب الغربي للمحيط الهندي والخليج. ويتراوح حجم السفينة في الحقيقة بين 15 إلى 37 مترا.

يستغرقك الحديث مع التاريخ وأنت تقرأ عن تاريخ " البوم" لولا أن سفينة مجان تناديك حيث تملأ فاترينة من فاترينات المتحف. ومجسم سفينة مجان هو إعادة افتراضية لبناء السفينة التجاربة التي يعود تاريخها إلى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد اعتمادا على علم التصوير الجداري "الأيقونات" وعلى الأدلة المباشرة التي تم العثور عليها في منطقة رأس الجنز بالمنطقة الشرقية. وحسب المجسم فإن " مجان" تضم حزما من مادة القصب المربوطة معا بحبال مرنة وغير سميكة، مع وجود حصير مصنوع من السعف والألياف لتغطية الهيكل المصنوع من القصب.

سفن أخرى تغريك في المتحف لتستنطق تاريخها مثل البتل الحربي، والشاشة، والهوري، والبقارة، والبغلة، والكمباري. وهي تتراوح بين المراكب الصغيرة والسفن الكبيرة.

ولا شك أن البحر مدخل مهم في معرفة تاريخ شبه جزيرة عمان (عمان التاريخية) وأعتقد جازما أن المتحف استطاع أن يوظف مفردات علم البحر لاستقراء التاريخ، أو لنقل في فتح مجالات لقراءة التاريخ من زواياه التي تعطي أفقا أكبر للرؤية.

في زاوية من زوايا قاعة البحر نجد نسخة طبق الأصل من ختم من بلاد الرافدين يمثل آلة الشمس على ظهر قاربه يرجع إلى الفترة الأكادية (2334- 2154 ق.م) وهي مقدمة من المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو. وليس بعيدا عن ذلك نشاهد لوحة مسمارية عبارة عن سجل يوثق النشاط التجاري خلال الألف الثالث قبل الميلاد في منطقة جيرسو (حضارة بلاد الرافدين) ويضم قائمة بالمواد التي تم طلبها لحوض بناء السفن، وتحتوي هذه القائمة على متطلبات إضافية من المواد اللازمة لحوض بناء السفن وهي توفر معلومات قيمة عن أساليب ومواد البناء في تلك الحقبة، ومن تلك المواد مادة القار المستخدمة في بناء سفينة مجان.

لا بأس بعد هذه المعرفة الجديدة التي أتاحها متحف أرض اللبان في إضافة ثقافة جديدة عن هذا العلم من جولة عميقة يوفرها المتحف في علم الإبحار، وهو العلم الذي برع فيه العرب لا سيما العمانيون حيث كان شيخ هذا العلم أحمد بن ماجد إماما علم البحار الأشهر. ومن بين المعروضات في هذا المجال اسطرلاب النقاش للصانع أحمد بن محمد المهذب النقاش ويعود إلى عام 1080 واسطرلاب النيسابوري للصانع السهل النيسابوري ويعود لعام 1299. والبوصلة وهي عبارة عن مفناطيس يتحرك بحرية على محور وبحيث يشير طبيعيا إلى القطب الشمالي المغناطيسي. والبوصلة التي يعرضها المتحف صنعت في المملكة المتحدة عام 1820. كما يعرض المتحف الكرة السماوية لعالم الفلك عبد الرحمن الصوفي، الذي عاش في الفترة من (291-376هـ/903-986م) وكان الصوفي من كبار علماء الفلك والتنجيم ومن أعظم فلكي الإسلام ومن مؤلفاته مخطوط الكواكب الثابتة الذي يعد أحد المخطوطات الرئيسية التي اشتهرت في علم الفلك عند المسلمين والذي يتميز بالرسم الملونة للأبراج والصور السماوية.

أول ما يلاقيك وأنت تدخل إلى قاعة التاريخ خارطة ضخمة للسلطنة تجسد تنوعها الجغرافي. وإذا جلت ببصرك ناحية اليمن ستشاهد مجسما للفلج العماني.

ويمكن للزائر أن يعتقد أن وضع مجسم الفلج في تلك الصدارة بالمتحف كان موفقا إلى حد بعيد، فهو معلم من أهم معالم براعة العمانيين الهندسية والفكرية، إذا ما نظرنا إلى الموضوع من زاوية علمية بعيدة عن الأساطير التي تحكي قصصا خرافية عن صناعة الأفلاج في عمان وتنسبها إلى النبي سليمان. وقد تم اعتماد نظام الأفلاج في عمان في قائمة التراث العالمي الثقافي والطبيعي التابع لمنظمة اليونسكو عام 2006. ويختزل المجسم حكاية الأفلاج من بدايتها إلى نهايتها. ويقدم المتحف في قاعته الثانية مجموعة كبيرة من الآثار التي تعود إلى حقب تاريخية غابرة منذ العصور الحجرية. ويستطيع الزائر أن يقف على أقدم المستوطنات البشرية في عُمان تعود إلى 5000 عام قبل الميلاد.

ويعرض المتحف لرسم افتراضي لقلعة شصر/ وبار. ويبدو من خلال الرسم أن القلعة عبارة عن مستوطنة متكاملة. وتشير المصادر التاريخية وقدماء الجغرافيين بأن موقع " وبار" من المراكز التجارية المهمة ومع اكتشاف الموقع بالأقمار الصناعية بدأت برامج المسح والتنقيب للتحقق من هويته وملامحه المعمارية. وتشير الدلائل إلى أن الموقع كان مأهولا منذ العصر الحديدي إلى العصور الإسلامية المتوسطة، كأحد مراكز قوافل تجارة اللبان في جنوب الربع الخالي، ويبعد الموقع عن مدينة صلالة حوالي 170 كم إلى الشمال.

ومن بين ما يشدك في قاعة التاريخ صورة كبيرة لوصول العمانيين إلى الصين حيث تظهر الصورة الشيخ عبد الله العماني يستقبله إمبراطور الصين جن سونج عام 1050 والصورة بريشة البروفيسور يوجين هاربر جونسن. وتشير الوثائق التاريخية إلى أن العمانيين وصلوا إلى الصين في أوائل القرن الثاني للهجرة منتصف القرن الثامن الميلادي وأن أول تاجر عماني قام بتلك الرحلة هو أبو عبيدة عبدالله بن القاسم، فيما قام تجار ثري من ولاية صحار هو عبدالله العماني أقام في الصين عشرات السنين ولقبه الجنرال الصيني ب"جنرال الأخلاق الطيبة". ومن بين الصور الأكثر إبداعا والتي تتواجد نسخ طبق الأصل منها في المتحف لوحة التحرير ليوجين هاربر جونسن والتي تجسد المعركة بين العمانيين والبرتغاليين. ويرسم نفس الفنان لوحة لوصول أحمد بن النعمان إلى ميناء نيويورك في 30 إبريل 1840 كمبعوث إلى الولايات المتحدة الأمريكية من قبل السيد سعيد بن سلطان.

وتقرأ على ردهات المتحف جزء من نص الاتفاقية التجارية الموقعة عام 1844 بين عمان وفرنسا، وجزء من نص اتفاقية الصداقة والتجارة والملاحة بين عمان وبريطانيا الموقعة عام 1839.

لكن يبقى السؤال مطروحا هل سأعود مرة أخرى إلى المتحف؟ أعتقد أن نعم. سأعود ثانية وثالثة وربما عاشرة، فمفردات المتحف تغنيك عن تفاصيل الجمال الأخرى.

عاصم الشيدي
الاربعاء 25 مايو 2011