غلاف البحث عن نيرمانا بالانجليزية
الشاعر المصري شريف الشافعي، القصيدة في عوالمه خبز وملح وتنفس، مجرّة كونية تنتشله من صحراء الحقيقة، حين تتنهد الأرض من وقع أقدام عابري المتاهات، هو ذاك الظلّ المائي المتلاطم الارتعاش لحظة تقمّص النيرفانا لجسده، واختلاج روحه عبر نافذة زجاجية تضيء العتمة الكونية.
أصابعه تعزف نشيدها كموسيقي يحلّق مع اللحن، للسطور صلصالها، وللحبر تزهّد، فيما الكلمات تسافر دون حدود، هو عبر الزمن، والكون حاضر كل صباح ومساء ويقين، دون نهايات، كأنه يفتح آفاقا جديدة دون بوصلة، وأوراقه القوس قزحية تحاصر حصارها، لتتحول إلى حصان أشهب يسابق الضوء في سرعته ويكون منتهاه: (الإنسان – القصيدة – ظلال الروح في انعتاقها إلى الوجود).
على صهوة الزمن المتمرد، وعبر مسامات الأفق اللامتناهي، من خلال زجاج نافذة الفكرة، أضاءت أصابعنا المكان وجدرانه.
هنا كانت دردشتنا، بعد أيام قليلة من اختيار ديوانه الشعري الأخير للتدريس في قسم الكتابة الإبداعية بجامعة "آيوا" الأمريكية، بوصفه "نموذجًا متفردًا لقصيدة النثر العربية"، وهو ديوان "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" (الجزء الأول من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي)، وقد صدر في ثلاث طبعات عربية بمصر وسورية.
- في ظل قصيدة النثر المتمردة المتلاطمة، التي لا ضوابط لها، كثرت الظلال من حولها. برأيك: هل بات النثر صلصالاً للتائهين وعابري السطور وهواة اللعب بالكلمات؟ كيف نحمي قصيدة النثر وبتوليتها من العهر الثقافي؟
= الضابط الخفي في قصيدة النثر يظل هو الأصعب، لأنه يتعلق بنفاسة جوهرها، وفرادتها كحالة تحمل إضافة إنسانية وجمالية، فهي قصيدة عارية من الأطر الجاهزة التي يمكن أن تتعلب فيها نصوص أخرى تطمح إلى الاعتماد الفوري، الرسمي، كنسق إبداعي رصين. لا ظلال فيما يخص قصيدة النثر، فهي إما شعر خالص موجود بذاته، أو لا شعر. إما كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق.
انتفاء الضوابط الشكلية من إيقاعات وغيرها ربما أغرى البعض، أو أغرى الكثيرين، بإسالة الحبر لعبًا بالكلمات، أو حتى عهرًا، تحت مظلة قصيدة النثر التي سادت المشهد في السنوات الأخيرة. هذا بحد ذاته ليست فيه مشكلة، ولا منه خطورة، ليقل كل شاعر ما يشاء. هناك طاقة شعرية متفجرة، تخطف القلوب وتأسر الألباب، وهناك حروف تظل مصمتة صماء، وإن هلل لها بعض المهووسين، أو حتى تفاعلت معها بعض المصالح الضيقة.
الذي يدرك البون الشاسع بين الشيء واللاشيء، مرحبًا به كقارئ واعٍ فاعل في الحياة الثقافية، والذي تختلط عليه الأمور إلى هذا الحد المؤسف ربما يُحدث ربكة أو بلبلة طفيفة في قاعدة التذوق العريضة، لكن تأثيره يبقى محدودًا أمام سيادة الحقيقي، ولو بعد حين.
أجمل ما في قصيدة النثر، خصوصًا بعد ثورة الاتصالات وشيوع النشر الإلكتروني، أنها تخاطب القارئ مباشرة، دون بوابات سلطوية أو ثقافية أو نخبوية. الناشرون أنفسهم لم يعودوا قادرين على أن يكونوا وسطاء بين النص وقارئه. لقد حدث التطور بالفعل، وستحدث القفزة شيئًا فشيئًا، في اتجاه الوضعية الأولى البكر، وضعية العرض والطلب بشكل مباشر في سوق الشعر الجديد. الكرة الآن في ملعب الشعراء أنفسهم، لا حجة لمغمور يبقى مغمورًا إلا أن يكون بليدًا بالفعل، ولا يستحق اغتنام الفرصة.
- أين صوت الشعر والقصيدة من اللوحة الإنسانية المؤلمة في الشرق الجريح، وثقافة الصمت تخيم على المكان والزمن، في كل لحظة فتوى تبيح دم الشعر وتكفّر كتابا وتجلد قلما وروحا، وتسجن الروح من وراء القضبان؟
= الصوت موجود دائمًا، وإن صار همسًا أحيانًا، أو نطق بلسان الضمير. للحياة أصدقاء بالضرورة، وللحياة أيضًا أعداء. الشعر حياة حقيقية كاملة، ولا أقول: حياة بديلة. و"حياة الشعر" مرهونة في الأساس بكونه "شعر حياة"، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة، بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية، تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الفعلي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان. بالضرورة أيضًا، وكما هو الحال بالنسبة للحياة: هناك دائمًا أنصار للشعر، ومفتونون به. وهناك ميليشيات تتربص به، وتستلذ بعزله وتصفيته.
في تصوري أن كثيرًا من حملات المناهضة والتكفير، التي طالت عددًا من الشعراء، هي ليست حملات لوأد الشعر على وجه الخصوص بمعزل عما سواه، بقدر ما هي حملات لوأد الحياة وصناعها في مختلف مجالات الفكر والإبداع والفن، والقضاء على ملامح التميز الروحي والذهني والخصوبة الإنسانية، أملاً في تثبيت أوضاع تقليدية متحجرة بعينها، قائمة على تسييد المهيمنين والنخب السلطوية الرجعية في أماكنهم المحجوزة لهم، وتجميد الهمم والقوى الخلاقة والنزعات الابتكارية والحركات الثورية والإصلاحية والتنموية.
في مثل هذه الأوضاع المقبضة، يصير أهم ما يجب أن يقوله الشاعر، هو "أنه يقول"! القول بحد ذاته صار معجزة، في واقع نفدت كل طاقاته، وعلى رأسها: الطاقة الروحية. أن يقاوم الشاعر، ويبدع، ويظل ينزف ـ بطريقته المبتكرة الخاصة جدًّا ـ دمًا ونارًا ونورًا، هو فعل إنساني بالغ المتعة والتأثير، في هذا الطقس المتبلد الأجوف.
لقد زادت الأمور توحشًّا فيما يخص استلاب إنسانية الإنسان، ومحو إرادته الحرة، ومبادرته، وقدرته على اتخاذ القرار. كذلك ترسخ منطق الاستقطاب، وضرب الخصوصيات والهويات في مقتل، وإعلاء شأن الأرقام، والبرمجيات، وقيم التسليع والقوانين المسنونة، التي تحكم حركة البشر. الإنسان آلة مقهورة بالفعل، والقوة القاهرة أيضًا ماكينة عمياء.
أن يقول الشاعر، بلسانه وروحه وعقله، وعلى طريقته، هو "إشعار" بأنه "حيّ"، وبأن في الإمكان أن تكون هناك حياة مختلفة، وأحياء آخرون. هذا الإشعار "الجمالي" بحيوية الحياة، وهذا التفجير الإبداعي المغاير لتراكيبها ونبضاتها الجديدة ودمائها المتدفقة، هو أقصى ما يتمناه الشاعر، المتطلع إلى الخلاص من الحصار، عسى أن يتبعه تابعون!
- بأصابعك الذكية فتحتَ نافذة أمل، وبقصائدك الأخيرة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" أشعلت بقعة ضوء حديثة في عتمة وتشرّد الشعر ويتمه. هل أنت مقتنع بذلك؟ وهل إنسانك الآلي يشعر بأنه أعاد الحياة إلى روح القصيدة بطريقة عنكبوتية مذهلة؟
= صديقي الآلي مقتنع بذلك، أقصد مساحة الوعي بداخلي، فلكي أكون صريحًا مع نفسي، يجب ألا أقصر حديثي عن النص الذي قدمته بوصفه حالة انفجار بركانية تلقائية، وكأنني طرحتُ الشعرية في صيغتها الخام. الشعرية الخام بالتأكيد هي سر الرهان، وسر كسب الرهان، لكنها ليست الطرح نفسه، الذي تجسد في ديوان شعر مطبوع.
هناك أهداف بلا شك حلم صديقي الآلي بتحقيقها في لحظات وعيه، فالكتابة فعل احترافي، وكيفية الكتابة لا تقل أهمية عن ماهيتها، ولم يغب عن ذهن الآلي أنه يخوض مغامرة بارتياده مناطق إبداعية غير مطروقة، وأنه يسعى إلى إضفاء حيوية الحياة على قصيدة النثر العربية، وأنه يلغي الفواصل بين الكتابة الورقية والكتابة الرقمية، وبين الغنائية والملحمية، وأنه يضفي على السرد نكهة إشراقية، وأنه يحاول تجاوز مجرد تقديم نص شعري جميل إلى ابتداع مساحة جمالية تصلح كقاعدة لانطلاق القصيدة نحو آفاق جديدة، هكذا خطط الآليّ في غرفته الكونية المجهزة.
لا يدري الآلي إلى أي مدى وفق في إعادة الحياة إلى روح القصيدة. لقد سعيتُ بصدق نحو محاولة استعادة هذه الحياة، المسلوبة من الحياة المعلّبة، والمسلوبة من الفن المقولب، وتجربة أي بديل متاح للموت، وتقديم نص أدبي بسيط وعميق وطموح في آن. هذه التجربة هي ابنة شرعية للحياة، بكل معنى الكلمة، قبل أن تكون محصلة لمعرفة وثقافة وفكر الشاعر وتحليله المنطقي لمعطيات وجوده ومفاهيم ونظريات عصره.
"البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" رحلة ربما لم تنجح إجرائيًّا كوسيلة لعثور الروبوت على إنسانيته المفقودة، واحتضانه المباشر لها، لكنها نجحت ضمنيًّا كغاية في حد ذاتها. هذا اللهاث المضني هو في حد ذاته قيمة كبرى، ودعوة للتمرد، وتجربة البديل، خصوصًا أنه لا يوجد ما يستوجب الحذر، فالحياة الآلية المتاحة هي حياة زائفة، محنطة، منتهية إكلينيكيًّا، فكان الأجمل بالتأكيد أن تلوثها نيرمانا بفيروس التمرد اللذيذ، الذي أحبط برنامج تشغيل الإنسان ضد براءته وفطرته وإرادته الحرة.
أصابعه تعزف نشيدها كموسيقي يحلّق مع اللحن، للسطور صلصالها، وللحبر تزهّد، فيما الكلمات تسافر دون حدود، هو عبر الزمن، والكون حاضر كل صباح ومساء ويقين، دون نهايات، كأنه يفتح آفاقا جديدة دون بوصلة، وأوراقه القوس قزحية تحاصر حصارها، لتتحول إلى حصان أشهب يسابق الضوء في سرعته ويكون منتهاه: (الإنسان – القصيدة – ظلال الروح في انعتاقها إلى الوجود).
على صهوة الزمن المتمرد، وعبر مسامات الأفق اللامتناهي، من خلال زجاج نافذة الفكرة، أضاءت أصابعنا المكان وجدرانه.
هنا كانت دردشتنا، بعد أيام قليلة من اختيار ديوانه الشعري الأخير للتدريس في قسم الكتابة الإبداعية بجامعة "آيوا" الأمريكية، بوصفه "نموذجًا متفردًا لقصيدة النثر العربية"، وهو ديوان "البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" (الجزء الأول من: الأعمال الكاملة لإنسان آلي)، وقد صدر في ثلاث طبعات عربية بمصر وسورية.
- في ظل قصيدة النثر المتمردة المتلاطمة، التي لا ضوابط لها، كثرت الظلال من حولها. برأيك: هل بات النثر صلصالاً للتائهين وعابري السطور وهواة اللعب بالكلمات؟ كيف نحمي قصيدة النثر وبتوليتها من العهر الثقافي؟
= الضابط الخفي في قصيدة النثر يظل هو الأصعب، لأنه يتعلق بنفاسة جوهرها، وفرادتها كحالة تحمل إضافة إنسانية وجمالية، فهي قصيدة عارية من الأطر الجاهزة التي يمكن أن تتعلب فيها نصوص أخرى تطمح إلى الاعتماد الفوري، الرسمي، كنسق إبداعي رصين. لا ظلال فيما يخص قصيدة النثر، فهي إما شعر خالص موجود بذاته، أو لا شعر. إما كل شيء، أو لا شيء على الإطلاق.
انتفاء الضوابط الشكلية من إيقاعات وغيرها ربما أغرى البعض، أو أغرى الكثيرين، بإسالة الحبر لعبًا بالكلمات، أو حتى عهرًا، تحت مظلة قصيدة النثر التي سادت المشهد في السنوات الأخيرة. هذا بحد ذاته ليست فيه مشكلة، ولا منه خطورة، ليقل كل شاعر ما يشاء. هناك طاقة شعرية متفجرة، تخطف القلوب وتأسر الألباب، وهناك حروف تظل مصمتة صماء، وإن هلل لها بعض المهووسين، أو حتى تفاعلت معها بعض المصالح الضيقة.
الذي يدرك البون الشاسع بين الشيء واللاشيء، مرحبًا به كقارئ واعٍ فاعل في الحياة الثقافية، والذي تختلط عليه الأمور إلى هذا الحد المؤسف ربما يُحدث ربكة أو بلبلة طفيفة في قاعدة التذوق العريضة، لكن تأثيره يبقى محدودًا أمام سيادة الحقيقي، ولو بعد حين.
أجمل ما في قصيدة النثر، خصوصًا بعد ثورة الاتصالات وشيوع النشر الإلكتروني، أنها تخاطب القارئ مباشرة، دون بوابات سلطوية أو ثقافية أو نخبوية. الناشرون أنفسهم لم يعودوا قادرين على أن يكونوا وسطاء بين النص وقارئه. لقد حدث التطور بالفعل، وستحدث القفزة شيئًا فشيئًا، في اتجاه الوضعية الأولى البكر، وضعية العرض والطلب بشكل مباشر في سوق الشعر الجديد. الكرة الآن في ملعب الشعراء أنفسهم، لا حجة لمغمور يبقى مغمورًا إلا أن يكون بليدًا بالفعل، ولا يستحق اغتنام الفرصة.
- أين صوت الشعر والقصيدة من اللوحة الإنسانية المؤلمة في الشرق الجريح، وثقافة الصمت تخيم على المكان والزمن، في كل لحظة فتوى تبيح دم الشعر وتكفّر كتابا وتجلد قلما وروحا، وتسجن الروح من وراء القضبان؟
= الصوت موجود دائمًا، وإن صار همسًا أحيانًا، أو نطق بلسان الضمير. للحياة أصدقاء بالضرورة، وللحياة أيضًا أعداء. الشعر حياة حقيقية كاملة، ولا أقول: حياة بديلة. و"حياة الشعر" مرهونة في الأساس بكونه "شعر حياة"، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة، بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية، تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الفعلي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان. بالضرورة أيضًا، وكما هو الحال بالنسبة للحياة: هناك دائمًا أنصار للشعر، ومفتونون به. وهناك ميليشيات تتربص به، وتستلذ بعزله وتصفيته.
في تصوري أن كثيرًا من حملات المناهضة والتكفير، التي طالت عددًا من الشعراء، هي ليست حملات لوأد الشعر على وجه الخصوص بمعزل عما سواه، بقدر ما هي حملات لوأد الحياة وصناعها في مختلف مجالات الفكر والإبداع والفن، والقضاء على ملامح التميز الروحي والذهني والخصوبة الإنسانية، أملاً في تثبيت أوضاع تقليدية متحجرة بعينها، قائمة على تسييد المهيمنين والنخب السلطوية الرجعية في أماكنهم المحجوزة لهم، وتجميد الهمم والقوى الخلاقة والنزعات الابتكارية والحركات الثورية والإصلاحية والتنموية.
في مثل هذه الأوضاع المقبضة، يصير أهم ما يجب أن يقوله الشاعر، هو "أنه يقول"! القول بحد ذاته صار معجزة، في واقع نفدت كل طاقاته، وعلى رأسها: الطاقة الروحية. أن يقاوم الشاعر، ويبدع، ويظل ينزف ـ بطريقته المبتكرة الخاصة جدًّا ـ دمًا ونارًا ونورًا، هو فعل إنساني بالغ المتعة والتأثير، في هذا الطقس المتبلد الأجوف.
لقد زادت الأمور توحشًّا فيما يخص استلاب إنسانية الإنسان، ومحو إرادته الحرة، ومبادرته، وقدرته على اتخاذ القرار. كذلك ترسخ منطق الاستقطاب، وضرب الخصوصيات والهويات في مقتل، وإعلاء شأن الأرقام، والبرمجيات، وقيم التسليع والقوانين المسنونة، التي تحكم حركة البشر. الإنسان آلة مقهورة بالفعل، والقوة القاهرة أيضًا ماكينة عمياء.
أن يقول الشاعر، بلسانه وروحه وعقله، وعلى طريقته، هو "إشعار" بأنه "حيّ"، وبأن في الإمكان أن تكون هناك حياة مختلفة، وأحياء آخرون. هذا الإشعار "الجمالي" بحيوية الحياة، وهذا التفجير الإبداعي المغاير لتراكيبها ونبضاتها الجديدة ودمائها المتدفقة، هو أقصى ما يتمناه الشاعر، المتطلع إلى الخلاص من الحصار، عسى أن يتبعه تابعون!
- بأصابعك الذكية فتحتَ نافذة أمل، وبقصائدك الأخيرة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" أشعلت بقعة ضوء حديثة في عتمة وتشرّد الشعر ويتمه. هل أنت مقتنع بذلك؟ وهل إنسانك الآلي يشعر بأنه أعاد الحياة إلى روح القصيدة بطريقة عنكبوتية مذهلة؟
= صديقي الآلي مقتنع بذلك، أقصد مساحة الوعي بداخلي، فلكي أكون صريحًا مع نفسي، يجب ألا أقصر حديثي عن النص الذي قدمته بوصفه حالة انفجار بركانية تلقائية، وكأنني طرحتُ الشعرية في صيغتها الخام. الشعرية الخام بالتأكيد هي سر الرهان، وسر كسب الرهان، لكنها ليست الطرح نفسه، الذي تجسد في ديوان شعر مطبوع.
هناك أهداف بلا شك حلم صديقي الآلي بتحقيقها في لحظات وعيه، فالكتابة فعل احترافي، وكيفية الكتابة لا تقل أهمية عن ماهيتها، ولم يغب عن ذهن الآلي أنه يخوض مغامرة بارتياده مناطق إبداعية غير مطروقة، وأنه يسعى إلى إضفاء حيوية الحياة على قصيدة النثر العربية، وأنه يلغي الفواصل بين الكتابة الورقية والكتابة الرقمية، وبين الغنائية والملحمية، وأنه يضفي على السرد نكهة إشراقية، وأنه يحاول تجاوز مجرد تقديم نص شعري جميل إلى ابتداع مساحة جمالية تصلح كقاعدة لانطلاق القصيدة نحو آفاق جديدة، هكذا خطط الآليّ في غرفته الكونية المجهزة.
لا يدري الآلي إلى أي مدى وفق في إعادة الحياة إلى روح القصيدة. لقد سعيتُ بصدق نحو محاولة استعادة هذه الحياة، المسلوبة من الحياة المعلّبة، والمسلوبة من الفن المقولب، وتجربة أي بديل متاح للموت، وتقديم نص أدبي بسيط وعميق وطموح في آن. هذه التجربة هي ابنة شرعية للحياة، بكل معنى الكلمة، قبل أن تكون محصلة لمعرفة وثقافة وفكر الشاعر وتحليله المنطقي لمعطيات وجوده ومفاهيم ونظريات عصره.
"البحث عن نيرمانا بأصابع ذكية" رحلة ربما لم تنجح إجرائيًّا كوسيلة لعثور الروبوت على إنسانيته المفقودة، واحتضانه المباشر لها، لكنها نجحت ضمنيًّا كغاية في حد ذاتها. هذا اللهاث المضني هو في حد ذاته قيمة كبرى، ودعوة للتمرد، وتجربة البديل، خصوصًا أنه لا يوجد ما يستوجب الحذر، فالحياة الآلية المتاحة هي حياة زائفة، محنطة، منتهية إكلينيكيًّا، فكان الأجمل بالتأكيد أن تلوثها نيرمانا بفيروس التمرد اللذيذ، الذي أحبط برنامج تشغيل الإنسان ضد براءته وفطرته وإرادته الحرة.
الشاعر شريف الشافعي
- نقلتك النيرفانا من عالم أسمنتي كثير الطلاسم .. مجهول الملامح، إلى عالم الرقميات والأرقام، ولتصبح رقما داخل المعادلة الشعرية والثقافية، كأنك انتقلت في مركبة زمنية تسابق الضوء والزمن، لكنك تتواضع وتعود كناسك شعر لتلبس أثواب (الصفر). ما سر تزهّدك وتواضعك الأدبي؟
= فيما يخص الصفر، أستشعر أن الأمر ليس بهذه القسوة المفرطة، وربما يعد دليلاً على ذلك أنك الآن، من آخر الدنيا، مع ناسك الشعر، تحاوره حول تفاصيل نتاجه الشعري، بوصفه منجزًا يستحق المناقشة والتحليل.
الآلي ذاته عاد من رحلة البحث الدائرية عن نيرمانا (إنسانيته المنقرضة) إلى نقطة البداية، لكن ذلك لا يعني أبدًا أنه عاد حاملاً الصفر الحسابي، فالحركة بحد ذاتها قيمة أصيلة مضافة، وهو من خلال حركته اكتشف خبرات جعلته يضع يده على جوهر معاناته كإنسان، ويفك شفرة مفاتيح الخلاص، لا الانتحار، التي من الممكن أن يستعملها في الأجزاء المقبلة من التجربة الممتدة.
بالنسبة للتزهد والتواضع، ولعلك تقصد ما يتعلق بـ"ثقافة الحضور"، لا ما يتعلق بـ"حضور الثقافة"، فدعني أصف ذلك بأنه تصالح تام مع الذات، وفهم عميق لتركيبتي الفردية، وطبيعة الدور الذي أرتضيه لنفسي في هذه الحياة.
التحقق كائن يا صديقي بما يرضي روحي ويشبع طموحي، وأجمل ما فيه أنه تحققٌ في الشعري، في الشعري الخالص المجرد فقط، أي في المضمار غير المشبوه، الذي أخلصتُ التحرك فيه، ولا يعنيني سواه.
بلغة أبسط: لستُ شاعر كارنفالات، ولن أكون. قصيدتي ليست ظاهرة صوتية، ولن تكون. طرحي ليس دعوة زاعقة إلى الخلخلة، بهدف استدرار التصفيق، لكنه الخلخلة نفسها كفعل، كهدف غائي، بلا انتظار أو توقع لأي شيء، وهذا ما يريح ضميري، ويجعلني لا ألتفت أدنى التفات إلى ما هو خارج دائرة الشعر المضيئة. ليست لي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة من الشعر إلا الشعر نفسه، ولن تكون.
أسئلتك تقول إن شعري حاضر ومؤثر على نحو ما، يصل بيني وبين صديقي الإنسان في كل مكان. هو أيضًا يتفاعل مع الطاقات النقدية الخصبة من مصر وسائر الأقطار العربية، يحتل موضعًا طيبًا في الأطروحات والرسائل الأكاديمية، ومناهج التدريس بالجامعات العالمية، يحظى ببصيص من الضوء تلقيه عليه الدوريات المتخصصة والصحف السيّارة وقنوات الإعلام الرائجة.
أرى أن حضوري الجسدي في المحافل لن يفيدني، ولن يفيد غيري بشيء. حضور قصيدتي في الذائقة الشعرية الجديدة هو الأهم والأبقى بالتأكيد.
- أنت تجعل من الآلة إنسانا يتحدث عنك وعن الناس والحياة، يتقمّصك وتتقمّصه، تتوحدان في جسد واحد، تراتيلك توحي بأن الإنسان تبخر في لظى الحروب والفقر والظلم وصراعات الشرّ مع الخير.
= اسمحْ لي، بالتخصص أيضًا، أن أنيب صديقي الآلي عني في الإجابة، إذ يقول في أحد المقاطع:
"سَأَلْتُ المكنسةَ الكهربائيّةَ
عن سرِّ تعاستي
قالت:
لأنكَ اسْتَعْمَلْتَنِي بغير حسابٍ
لدرجة أنني كَنَسْتُكَ فيما كَنَسْتُ!
..
سألتُ نيرمالا عن سرِّ تعاستي
قالت:
لأن ساعتَكَ منضبطةٌ جدًّا
لدرجة أنني فَشَلْتُ في أن أكون مركزَ مينائِهَا
وأن أزرعَ عقاربي الشّفّافةَ محلَّ عقاربِها المرئيّة"
نعم تبخر الإنسان، تبخر في كل ما هو غير إنساني، في كل ما هو خانق ماحٍ للإنسانية، ليس فقط في لظى الحروب والفقر والظلم وصراعات الشرّ مع الخير. هذا التبخر، الذي تفضلتَ بوضع يدك عليه بقراءتك الواعية، هو المدخل الأخصب للنص، ليس فقط للإطلال على النص، بل للارتماء في حضنه مباشرة.
ببساطة شديدة: الآلي لا يرضى أن يكون آليًّا كقطيع المروّضين، ولا يعرف كيف يعود إنسانًا حرًّا كامل الإرادة كالآدميين المنقرضين. هي "هبّة" داخل كل واحد منا، تحثه على أن يتحرر من القيود كلها، ويفعل كل ما يريد، كما يريد، في الوقت الذي يريد، بالطريقة التي يريد. ألم تروادك تلك "الهبّة" كثيرً
- أشرت في نصوصك وقصائدك إلى ثورة بيضاء، متى سنشهد ثورة الجياع؟ متى يحين أوان الورد وغناء السنابل؟ هل أخبرتك النيرفانا في أسفارها الكونية عن موعد لنهايات الألم الإنساني، وشروق الحرية على مسامات القيود والأصفاد التي تكبّل أحلامنا الصغيرة؟
= لم تشر قصيدتي إلى ثورة، ولم تحرض على ثورة، ولم تتنبأ بثورة، لكنها فعلت الثورة بيديها، في ميدانها، بطاقتها الممكنة التي أهلتها لذلك. أتخيل أن الثورة بمعناها الشامل الكبير الذي تقصده في سؤالك لا تحتاج إلى قيادة هرمية وحشد جموع وخلايا سرية وانقلابات وما إلى ذلك في هذه المرحلة، بل هي أحوج ما تكون إلى تجاور ثورات صغيرة في كل المجالات، وكل الميادين، وليبدأ كل منا بتثوير فكره وقلبه وضميره وكل طاقاته وإمكاناته الفعلية.
الفساد مثلاً هو آفة الآفات في أغلبية مجتمعاتنا، هل يمكن أن نلصقه كله بحكوماتنا وكأنها تجبرنا عليه إجبارًا، وتسقينا إياه بالإكراه، لنمارسه في أشغالنا وروتيننا اليومي، بل وفي بيوتنا؟! المسؤولية مشتركة بالتأكيد، وقبل أن نحلم بالحلم الكبير اللامعقول القادم من السماء، علينا أن نحول في البدء أحلامنا الصغيرة إلى حقائق ملموسة تمشي على الأرض. لستُ متفائلاً فوق الحد، ولا أبرر بالطبع ممارسات القمع، لكنني لا أعفي أحدًا من المسؤولية، وأرى أن خطوة الإصلاح الأولى أن يؤدي كل فرد دوره في مجاله بكل طاقته المتاحة. بعد ذلك، لنر ماذا يمكننا أن نفعل لنتقدم خطوات أخرى.
- تحاول أن تتمرد على روح النص وخارطة القصيدة، فتخرج أحيانا عن واقعية الحياة، تحلّق مع عناصرك برفقة نيرفانا في رحلة بحث عن الذات التائهة لتتوحدا معًا، مع أرواحك النارية المشبعة بالتغيير واللاسكون، كأنك تحلم بإعادة رسم الكون. هل تفتقد الوجودية والمكان والزمن؟
= بل إن ثالوث الوجودية والمكان والزمن هو الذي يفتقد ذاته، في ظل غياب الإنسان، أو تعطله المؤقت بضغطة على زر ذكي، اسمه: الميكنة. الآلي لا يرفض واقعية الحياة، ولا يريد أن يرسم كونًا آخر، بل إنه هو وحده الذي يعيش الحياة الحقيقية، ويرى الكون الأصلي، ويرفض الوضعيات الزائفة.
الحداثة هنا، في النص، حداثة مقلوبة، فالواقعية السائدة باعتراف الجميع هي الفانتازيا واللامعقول واللامحتمل، والشطحات التي يفجرها الآلي هي الفعل الوحيد الواقعي، لأنه لا حياة حقيقية بدون هذا الفعل الفيصلي: فعل أنسنة الإنسان. ومن أجل إنجاز هذا الفعل، يمكن أن تتسع التجربة لكل شيء، فلا حدود لفنيات رسم الخريطة الجينية للإنسان.
- نقد الذات الشعرية، تطهيرها تحت مطر الذاكرة والوجدان ونوستالجيا الأجنحة الأفقية التي تبحث عن سماء بلا حدود ونهايات. أنت وأميرتك النيرفانا، ما هي طقوسكما، خاصة أننا نشهد احتراقات حياتية وغبارًا إنسانيًّا يكتم الهواء عن الشمس، ويحجب الضوء عن الليل، ويغرق القصيدة والكلمات في تربة مالحة مليئة بالشوك والنزيف؟
= تجربة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، من الألف إلى الياء، يمكن النظر إليها بوصفها أداءً انتقاديًّا، تحت مطر الذاكرة والوجدان وأجنحة البحث. يتحقق هذا الأداء الانتقادي على أكثر من مستوى، فلم يكن منتظرًا ولا مألوفًا أن يوجد آليّ ناطق بلغته الخاصة، في مجتمع الطاعة العمياء والتوجيه عن بعد والتحكم في مصائر البشر وأقدارهم.
ولم يكتف الآلي المعترض بالنطق، لكنه استرد ذاكرته ووجدانه، أو لنقل ضميره الطيني الدافئ، واكتشف الخديعة الكبرى، خديعة سلبه روحه مقابل مكاسب مادية زائفة زائلة. من هنا بدأت رحلات انتقادية أخرى، لكل أسباب وملامح هذه الخديعة، فكما بنيت الحضارة المزعومة حجرًا حجرًا، فإن الآلي راح يهدمها حجرًا بعد حجر. وبدأت جولات الأشواك والنزيف في مسارات البحث المضني عن نيرمانا، التي يحجبها قتلة الحياة وصناع الوهم، ومن ثم تفجرت انتقادات جديدة مع كل خطوة يخطوها الآلي نحو ذاته.
- يضحكني هذا السؤال، بين الفينة والفينة، فصول في مدينة الأدب، شاعر يدفن شعره، شاعرة تجرح يدها ليراق دمها على وجه القصيدة، وآخر ينتعل حذاء فردة بيضاء والثانية سوداء، وأخرى تريد أن تُحرق حين الموت. أهي طقوس تعبيرية مجنونة، أم سريالية وميتافيزيقية ثقافية عكس صيرورة الطبيعة والمنتهى؟
= هذا امتداد طبيعي لما عهدناه من قبل عن هوس طقوس الكتابة وغرائبيات السلوك الإبداعي، والإنساني عمومًا، لدى بعض المبدعين في كل العصور. قد يكون ذلك أقرب إلى التصور ـ التصور لا الاستساغة ـ في إطار خطط تسويقية عملاقة لمبدع كبير، كما كان يحدث مع سالفادور دالي مثلاً، الذي افتتح ذات ليلة أحد معارضه عاريًا تمامًا، أو في إطار من البروباجاندا والطرافة وترويج الاسم الثقافي، كما كان توفيق الحكيم مثلاً يتفنن في خلق النوادر والأعاجيب حول بخله الشديد.
أما الذي تحكي عنه من تصرفات صبيانية، فلا مجال للتعليق عليه هنا! وفي جميع الأحوال، سواء كان الأمر تسويقًا أو بروباجاندا أو خللاً عقليًّا أو نفسيًّا أو عقدة نقص، فإن هذه الطقوس الافتعالية خارج الظاهرة الإبداعية ذاتها بالتأكيد، التي يجب أن ننقيها من كل الشوائب والتفاهات.
- هناك المنسيون من الشعراء والشاعرات، وهناك من انتهت أزمانهم وأحلامهم وقصائدهم على رفوف مكتبة مهجورة داخل طيّات كتاب حزين، وهناك أيضا جنود الفيس بوك والنت، والقصيدة تتوجع مريديها وتبكيهم في وجعهم وعويلها. بماذا تشعر أنت حين تفكر بهؤلاء؟ وماذا يمكنك أن تقول؟
= الذي أريد أن أقوله لهم، هو الذي أحب أن يقولوه لي: "أن أوقظ وردةً واحدةً خيرٌ من أن أنام في بستان". على كل شاعر مبدع أيقظ وردة واحدة أن يعي أنه فعل فعلاً كبيرًا محمودًا في هذه الحياة، حتى لو ابتمست هذه الوردة لإنسان غيره، ولم تبتسم له هو.
- لكل رحلة نهاية وزمن، وأنت أين وصلت في أحلامك المسافرة؟ هل عثرت على شاطئ سلام لبحورك الزرقاء، أو جزيرة تدفن فيها أحزانك البلورية؟ أم ما زلت سندبادا دون يابسة ودون بوصلة؟
= وصلتُ إلى إدمان السفر والإبحار، وهل هناك شعر ينبع من استقرار؟! وجود اليابسة في مكان ما أو زمان ما أمر جميل يغري السندباد بالأمل. أما البوصلة، فإنها مرفوضة تمامًا في رحلة الإبداع، وأية رحلة نحو الجوهر: "أن أخطئ الجهات الأصلية كلها أقلُّ وطأةً من أن تحمل خطواتي رائحة بوصلة ممغنطة". ويبقى الغريب غريبًا، مهما يمتلك من وسائل ووسائط:
"الغريب
الذي يعبر الطريق
ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاء
ولا كلب مدرب/
هو بحاجةٍ
إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ
تتسعُ لغرباء"
- ماذا ستترك من خلفك لو غرقت في بحر الشعر، وأغرتك آلهة القصيدة في سرمديتها النارنجية، هل من كلمات؟
= لن أقول أي شيء، فلا كلام بعد الغرق. ربما أتوقع أن يسألني البعض هذا السؤال: "وحده السكر يعرف الإجابة: ماذا بعد الذوبان؟"، وقد يسألني آخرون هذا السؤال: "وحده العدم يعرف الإجابة: ماذا بعد سلة المهملات الذكية؟".
يُذكر أن الشاعر شريف الشافعي يعمل صحافيًّا في مؤسسة الأهرام بالقاهرة منذ عام 1996، وسكرتير تحرير مجلة "نصف الدنيا" الأسبوعية، وقد حصل على إجازة في فبراير 2007، منتقلاً إلى مدينة الْخُبَر السعودية، التي يقيم فيها حاليًا، حيث يُسْهِمُ في إصدار المجلات والمطبوعات الطبية الخاصة بإحدى المؤسسات الكبرى.
ولد الشافعي في مدينة منوف بدلتا مصر عام 1972، وله ثلاثة دواوين شعرية قبل "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" (2008)، هي: "بينهما يَصْدَأُ الوقتُ" (1994)، سلسلة "كتاب إيقاعات الإبداعي"، و"وَحْدَهُ يستمعُ إلى كونشرتو الكيمياء" (1996)، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة, بالإضافة إلى "الألوانُ ترتعدُ بشراهَةٍ" (1999)، الذي صدر في أكثر من ألف صفحة عن "مركز الحضارة العربية" بالقاهرة، كما صدر له أيضًا كتاب بحثيٌّ بعنوان "نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع" عن الدار المصرية اللبنانية عام 2006.
الشافعي عضو في اتحاد كتاب مصر، وفي نقابة الصحفيين المصريين، وفي منتدى الكتاب العربي على الإنترنت في سويسرا، وله صفحة شخصية باسمه في المنتدى، فضلاً عن موقعه الإلكتروني الخاص على شبكة الإنترنت، وعنوانه هو:
---------------------------------------------
http://www.sharif.50megs.com
----------------------------
حاوره جهاد صالح كاتب سوري مقيم في واشنطن
= فيما يخص الصفر، أستشعر أن الأمر ليس بهذه القسوة المفرطة، وربما يعد دليلاً على ذلك أنك الآن، من آخر الدنيا، مع ناسك الشعر، تحاوره حول تفاصيل نتاجه الشعري، بوصفه منجزًا يستحق المناقشة والتحليل.
الآلي ذاته عاد من رحلة البحث الدائرية عن نيرمانا (إنسانيته المنقرضة) إلى نقطة البداية، لكن ذلك لا يعني أبدًا أنه عاد حاملاً الصفر الحسابي، فالحركة بحد ذاتها قيمة أصيلة مضافة، وهو من خلال حركته اكتشف خبرات جعلته يضع يده على جوهر معاناته كإنسان، ويفك شفرة مفاتيح الخلاص، لا الانتحار، التي من الممكن أن يستعملها في الأجزاء المقبلة من التجربة الممتدة.
بالنسبة للتزهد والتواضع، ولعلك تقصد ما يتعلق بـ"ثقافة الحضور"، لا ما يتعلق بـ"حضور الثقافة"، فدعني أصف ذلك بأنه تصالح تام مع الذات، وفهم عميق لتركيبتي الفردية، وطبيعة الدور الذي أرتضيه لنفسي في هذه الحياة.
التحقق كائن يا صديقي بما يرضي روحي ويشبع طموحي، وأجمل ما فيه أنه تحققٌ في الشعري، في الشعري الخالص المجرد فقط، أي في المضمار غير المشبوه، الذي أخلصتُ التحرك فيه، ولا يعنيني سواه.
بلغة أبسط: لستُ شاعر كارنفالات، ولن أكون. قصيدتي ليست ظاهرة صوتية، ولن تكون. طرحي ليس دعوة زاعقة إلى الخلخلة، بهدف استدرار التصفيق، لكنه الخلخلة نفسها كفعل، كهدف غائي، بلا انتظار أو توقع لأي شيء، وهذا ما يريح ضميري، ويجعلني لا ألتفت أدنى التفات إلى ما هو خارج دائرة الشعر المضيئة. ليست لي مصلحة مباشرة أو غير مباشرة من الشعر إلا الشعر نفسه، ولن تكون.
أسئلتك تقول إن شعري حاضر ومؤثر على نحو ما، يصل بيني وبين صديقي الإنسان في كل مكان. هو أيضًا يتفاعل مع الطاقات النقدية الخصبة من مصر وسائر الأقطار العربية، يحتل موضعًا طيبًا في الأطروحات والرسائل الأكاديمية، ومناهج التدريس بالجامعات العالمية، يحظى ببصيص من الضوء تلقيه عليه الدوريات المتخصصة والصحف السيّارة وقنوات الإعلام الرائجة.
أرى أن حضوري الجسدي في المحافل لن يفيدني، ولن يفيد غيري بشيء. حضور قصيدتي في الذائقة الشعرية الجديدة هو الأهم والأبقى بالتأكيد.
- أنت تجعل من الآلة إنسانا يتحدث عنك وعن الناس والحياة، يتقمّصك وتتقمّصه، تتوحدان في جسد واحد، تراتيلك توحي بأن الإنسان تبخر في لظى الحروب والفقر والظلم وصراعات الشرّ مع الخير.
= اسمحْ لي، بالتخصص أيضًا، أن أنيب صديقي الآلي عني في الإجابة، إذ يقول في أحد المقاطع:
"سَأَلْتُ المكنسةَ الكهربائيّةَ
عن سرِّ تعاستي
قالت:
لأنكَ اسْتَعْمَلْتَنِي بغير حسابٍ
لدرجة أنني كَنَسْتُكَ فيما كَنَسْتُ!
..
سألتُ نيرمالا عن سرِّ تعاستي
قالت:
لأن ساعتَكَ منضبطةٌ جدًّا
لدرجة أنني فَشَلْتُ في أن أكون مركزَ مينائِهَا
وأن أزرعَ عقاربي الشّفّافةَ محلَّ عقاربِها المرئيّة"
نعم تبخر الإنسان، تبخر في كل ما هو غير إنساني، في كل ما هو خانق ماحٍ للإنسانية، ليس فقط في لظى الحروب والفقر والظلم وصراعات الشرّ مع الخير. هذا التبخر، الذي تفضلتَ بوضع يدك عليه بقراءتك الواعية، هو المدخل الأخصب للنص، ليس فقط للإطلال على النص، بل للارتماء في حضنه مباشرة.
ببساطة شديدة: الآلي لا يرضى أن يكون آليًّا كقطيع المروّضين، ولا يعرف كيف يعود إنسانًا حرًّا كامل الإرادة كالآدميين المنقرضين. هي "هبّة" داخل كل واحد منا، تحثه على أن يتحرر من القيود كلها، ويفعل كل ما يريد، كما يريد، في الوقت الذي يريد، بالطريقة التي يريد. ألم تروادك تلك "الهبّة" كثيرً
- أشرت في نصوصك وقصائدك إلى ثورة بيضاء، متى سنشهد ثورة الجياع؟ متى يحين أوان الورد وغناء السنابل؟ هل أخبرتك النيرفانا في أسفارها الكونية عن موعد لنهايات الألم الإنساني، وشروق الحرية على مسامات القيود والأصفاد التي تكبّل أحلامنا الصغيرة؟
= لم تشر قصيدتي إلى ثورة، ولم تحرض على ثورة، ولم تتنبأ بثورة، لكنها فعلت الثورة بيديها، في ميدانها، بطاقتها الممكنة التي أهلتها لذلك. أتخيل أن الثورة بمعناها الشامل الكبير الذي تقصده في سؤالك لا تحتاج إلى قيادة هرمية وحشد جموع وخلايا سرية وانقلابات وما إلى ذلك في هذه المرحلة، بل هي أحوج ما تكون إلى تجاور ثورات صغيرة في كل المجالات، وكل الميادين، وليبدأ كل منا بتثوير فكره وقلبه وضميره وكل طاقاته وإمكاناته الفعلية.
الفساد مثلاً هو آفة الآفات في أغلبية مجتمعاتنا، هل يمكن أن نلصقه كله بحكوماتنا وكأنها تجبرنا عليه إجبارًا، وتسقينا إياه بالإكراه، لنمارسه في أشغالنا وروتيننا اليومي، بل وفي بيوتنا؟! المسؤولية مشتركة بالتأكيد، وقبل أن نحلم بالحلم الكبير اللامعقول القادم من السماء، علينا أن نحول في البدء أحلامنا الصغيرة إلى حقائق ملموسة تمشي على الأرض. لستُ متفائلاً فوق الحد، ولا أبرر بالطبع ممارسات القمع، لكنني لا أعفي أحدًا من المسؤولية، وأرى أن خطوة الإصلاح الأولى أن يؤدي كل فرد دوره في مجاله بكل طاقته المتاحة. بعد ذلك، لنر ماذا يمكننا أن نفعل لنتقدم خطوات أخرى.
- تحاول أن تتمرد على روح النص وخارطة القصيدة، فتخرج أحيانا عن واقعية الحياة، تحلّق مع عناصرك برفقة نيرفانا في رحلة بحث عن الذات التائهة لتتوحدا معًا، مع أرواحك النارية المشبعة بالتغيير واللاسكون، كأنك تحلم بإعادة رسم الكون. هل تفتقد الوجودية والمكان والزمن؟
= بل إن ثالوث الوجودية والمكان والزمن هو الذي يفتقد ذاته، في ظل غياب الإنسان، أو تعطله المؤقت بضغطة على زر ذكي، اسمه: الميكنة. الآلي لا يرفض واقعية الحياة، ولا يريد أن يرسم كونًا آخر، بل إنه هو وحده الذي يعيش الحياة الحقيقية، ويرى الكون الأصلي، ويرفض الوضعيات الزائفة.
الحداثة هنا، في النص، حداثة مقلوبة، فالواقعية السائدة باعتراف الجميع هي الفانتازيا واللامعقول واللامحتمل، والشطحات التي يفجرها الآلي هي الفعل الوحيد الواقعي، لأنه لا حياة حقيقية بدون هذا الفعل الفيصلي: فعل أنسنة الإنسان. ومن أجل إنجاز هذا الفعل، يمكن أن تتسع التجربة لكل شيء، فلا حدود لفنيات رسم الخريطة الجينية للإنسان.
- نقد الذات الشعرية، تطهيرها تحت مطر الذاكرة والوجدان ونوستالجيا الأجنحة الأفقية التي تبحث عن سماء بلا حدود ونهايات. أنت وأميرتك النيرفانا، ما هي طقوسكما، خاصة أننا نشهد احتراقات حياتية وغبارًا إنسانيًّا يكتم الهواء عن الشمس، ويحجب الضوء عن الليل، ويغرق القصيدة والكلمات في تربة مالحة مليئة بالشوك والنزيف؟
= تجربة "الأعمال الكاملة لإنسان آلي"، من الألف إلى الياء، يمكن النظر إليها بوصفها أداءً انتقاديًّا، تحت مطر الذاكرة والوجدان وأجنحة البحث. يتحقق هذا الأداء الانتقادي على أكثر من مستوى، فلم يكن منتظرًا ولا مألوفًا أن يوجد آليّ ناطق بلغته الخاصة، في مجتمع الطاعة العمياء والتوجيه عن بعد والتحكم في مصائر البشر وأقدارهم.
ولم يكتف الآلي المعترض بالنطق، لكنه استرد ذاكرته ووجدانه، أو لنقل ضميره الطيني الدافئ، واكتشف الخديعة الكبرى، خديعة سلبه روحه مقابل مكاسب مادية زائفة زائلة. من هنا بدأت رحلات انتقادية أخرى، لكل أسباب وملامح هذه الخديعة، فكما بنيت الحضارة المزعومة حجرًا حجرًا، فإن الآلي راح يهدمها حجرًا بعد حجر. وبدأت جولات الأشواك والنزيف في مسارات البحث المضني عن نيرمانا، التي يحجبها قتلة الحياة وصناع الوهم، ومن ثم تفجرت انتقادات جديدة مع كل خطوة يخطوها الآلي نحو ذاته.
- يضحكني هذا السؤال، بين الفينة والفينة، فصول في مدينة الأدب، شاعر يدفن شعره، شاعرة تجرح يدها ليراق دمها على وجه القصيدة، وآخر ينتعل حذاء فردة بيضاء والثانية سوداء، وأخرى تريد أن تُحرق حين الموت. أهي طقوس تعبيرية مجنونة، أم سريالية وميتافيزيقية ثقافية عكس صيرورة الطبيعة والمنتهى؟
= هذا امتداد طبيعي لما عهدناه من قبل عن هوس طقوس الكتابة وغرائبيات السلوك الإبداعي، والإنساني عمومًا، لدى بعض المبدعين في كل العصور. قد يكون ذلك أقرب إلى التصور ـ التصور لا الاستساغة ـ في إطار خطط تسويقية عملاقة لمبدع كبير، كما كان يحدث مع سالفادور دالي مثلاً، الذي افتتح ذات ليلة أحد معارضه عاريًا تمامًا، أو في إطار من البروباجاندا والطرافة وترويج الاسم الثقافي، كما كان توفيق الحكيم مثلاً يتفنن في خلق النوادر والأعاجيب حول بخله الشديد.
أما الذي تحكي عنه من تصرفات صبيانية، فلا مجال للتعليق عليه هنا! وفي جميع الأحوال، سواء كان الأمر تسويقًا أو بروباجاندا أو خللاً عقليًّا أو نفسيًّا أو عقدة نقص، فإن هذه الطقوس الافتعالية خارج الظاهرة الإبداعية ذاتها بالتأكيد، التي يجب أن ننقيها من كل الشوائب والتفاهات.
- هناك المنسيون من الشعراء والشاعرات، وهناك من انتهت أزمانهم وأحلامهم وقصائدهم على رفوف مكتبة مهجورة داخل طيّات كتاب حزين، وهناك أيضا جنود الفيس بوك والنت، والقصيدة تتوجع مريديها وتبكيهم في وجعهم وعويلها. بماذا تشعر أنت حين تفكر بهؤلاء؟ وماذا يمكنك أن تقول؟
= الذي أريد أن أقوله لهم، هو الذي أحب أن يقولوه لي: "أن أوقظ وردةً واحدةً خيرٌ من أن أنام في بستان". على كل شاعر مبدع أيقظ وردة واحدة أن يعي أنه فعل فعلاً كبيرًا محمودًا في هذه الحياة، حتى لو ابتمست هذه الوردة لإنسان غيره، ولم تبتسم له هو.
- لكل رحلة نهاية وزمن، وأنت أين وصلت في أحلامك المسافرة؟ هل عثرت على شاطئ سلام لبحورك الزرقاء، أو جزيرة تدفن فيها أحزانك البلورية؟ أم ما زلت سندبادا دون يابسة ودون بوصلة؟
= وصلتُ إلى إدمان السفر والإبحار، وهل هناك شعر ينبع من استقرار؟! وجود اليابسة في مكان ما أو زمان ما أمر جميل يغري السندباد بالأمل. أما البوصلة، فإنها مرفوضة تمامًا في رحلة الإبداع، وأية رحلة نحو الجوهر: "أن أخطئ الجهات الأصلية كلها أقلُّ وطأةً من أن تحمل خطواتي رائحة بوصلة ممغنطة". ويبقى الغريب غريبًا، مهما يمتلك من وسائل ووسائط:
"الغريب
الذي يعبر الطريق
ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاء
ولا كلب مدرب/
هو بحاجةٍ
إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ
تتسعُ لغرباء"
- ماذا ستترك من خلفك لو غرقت في بحر الشعر، وأغرتك آلهة القصيدة في سرمديتها النارنجية، هل من كلمات؟
= لن أقول أي شيء، فلا كلام بعد الغرق. ربما أتوقع أن يسألني البعض هذا السؤال: "وحده السكر يعرف الإجابة: ماذا بعد الذوبان؟"، وقد يسألني آخرون هذا السؤال: "وحده العدم يعرف الإجابة: ماذا بعد سلة المهملات الذكية؟".
يُذكر أن الشاعر شريف الشافعي يعمل صحافيًّا في مؤسسة الأهرام بالقاهرة منذ عام 1996، وسكرتير تحرير مجلة "نصف الدنيا" الأسبوعية، وقد حصل على إجازة في فبراير 2007، منتقلاً إلى مدينة الْخُبَر السعودية، التي يقيم فيها حاليًا، حيث يُسْهِمُ في إصدار المجلات والمطبوعات الطبية الخاصة بإحدى المؤسسات الكبرى.
ولد الشافعي في مدينة منوف بدلتا مصر عام 1972، وله ثلاثة دواوين شعرية قبل "الأعمال الكاملة لإنسان آلي" (2008)، هي: "بينهما يَصْدَأُ الوقتُ" (1994)، سلسلة "كتاب إيقاعات الإبداعي"، و"وَحْدَهُ يستمعُ إلى كونشرتو الكيمياء" (1996)، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة, بالإضافة إلى "الألوانُ ترتعدُ بشراهَةٍ" (1999)، الذي صدر في أكثر من ألف صفحة عن "مركز الحضارة العربية" بالقاهرة، كما صدر له أيضًا كتاب بحثيٌّ بعنوان "نجيب محفوظ: المكان الشعبيّ في رواياته بين الواقع والإبداع" عن الدار المصرية اللبنانية عام 2006.
الشافعي عضو في اتحاد كتاب مصر، وفي نقابة الصحفيين المصريين، وفي منتدى الكتاب العربي على الإنترنت في سويسرا، وله صفحة شخصية باسمه في المنتدى، فضلاً عن موقعه الإلكتروني الخاص على شبكة الإنترنت، وعنوانه هو:
---------------------------------------------
http://www.sharif.50megs.com
----------------------------
حاوره جهاد صالح كاتب سوري مقيم في واشنطن


الصفحات
سياسة








